رغم أن الخسائر التراكمية في الإنتاج العالمي فيما بين عامي 2020 و2025 يمكن أن تبلغ 22 تريليون دولار، وفق تصريحات كبيرة خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، لكن التفاؤل بدأ يعم الأسواق العالمية مع بدء انتشار اللقاحات والإقبال الكبير من المجتمعات عليها، بدرجة رفعت من مستوى التحديات المتوقعة بهذا الشأن. ذلك التفاؤل الذي مكن صندوق النقد الدولي من تحديث توقعاته للنمو العالمي في كانون الثاني (يناير) ليصل إلى 5.5 في المائة، بعد أن كان أقل من ذلك في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2020، بل إن التفاؤل يذهب بعيدا لدرجة أن النائب الأول لمديرة الصندوق الدولي يتوقع أن يتم تعديل التوقعات بزيادة توقعاته للنمو العالمي خلال نيسان (أبريل) المقبل. لكن المفارقة التي يشهدها النمو العالمي هي أن الأمور لم تكن بهذا القدر من التفاؤل حتى قبل انتشار جائحة كورونا، أي في عام 2019، فقد كان التفاؤل بالنمو الاقتصادي لم يتجاوز 2.4 في المائة، ولم يكن من المتوقع أن يشهد عام 2020 أي تحسن يمكن الإشارة إليه في ذلك الحين، لكن من المؤكد أن انتشار الجائحة قد قلب الموازين كلها رأسا على عقب، وبعد أن كان الحديث عن نمو ضعيف كما بدأ العالم يتحدث عن كساد في عام 2020 ثم عودة لنمو قوي جدا في الاقتصاد الأمريكي يصل إلى 5.1 في المائة. ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد الصين 8.1 في المائة في 2021 في حين بلغ النمو المتوقع لاقتصاد الهند 11.5 في المائة في 2021، وبزيادة 2.7 نقطة مئوية عن تقدير تشرين الأول (أكتوبر). هذا النمو الكبير والواسع النطاق فيما بين تقديرات عامي 2019 و2021 يشير إلي حدوث انقلاب كامل في الاقتصاد العالمي، وذلك على الرغم من أن سنة القياس لعام 2021 هي 2020 وهي السنة التي تحقق فيها انكماش عالمي كبير وصل إلى 8 في المائة في بعض الدول لكن حتى هذه المقارنة تجعل النمو العالمي كبيرا بشكل مدهش فقد استطاع العالم الخروج من الكساد والركود معا وبصورة قوية ليواجه زخم نمو عالمي يذكرنا بالنمو الذي كان قبل عام 2008، عندما كان الجموح الصيني والهندي في قمته، والنمو الاقتصادي يعني مزيدا من الوظائف ومزيدا من الإنتاج العالمي، وإنتاج مزيد من النفط. وهنا يبدو أن المفارقات غريبة نوعا ما، فمع هذه التقديرات القوية للنمو العالمي يؤكد الصندوق الدولي أن حجم الفاقد في الإنتاج العالمي قد يصل إلى 22 تريليون دولار، فكيف يمكن الجمع بين هذه الأرقام كافة التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة؟ وعطفا على خطاب ألقاه النائب الأول لمديرة الصندوق الدولي أمام منتدى التنمية الصيني، وضح الأسباب الكامنة خلف هذا التناقض، فهناك مخاوف من تباين متزايد بين الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة في ظل وقوع نحو 90 مليون شخص تحت خط الفقر المدقع منذ ظهور الوباء، وهكذا فنحن أمام مشهد عالمي غير متوازن، فبينما هناك اقتصادات ودول وقطاعات تنمو بقوة، هناك من يقبع تحت خط الفقر. هذا التباين ألغى التقدم المحقق في الحد من الفقر على مدى العقدين الأخيرين، وما زالت أعداد كبيرة تعاني البطالة المباشرة أو المقنعة في دول عديدة، بما فيها الولايات المتحدة، وفقا لتصريحات نائب مديرة الصندوق الدولي، ما يشير إلى أن التباين عميق جدا حتى في الدول التي حققت نموا متسارعا، والفجوات هذه قد تقود إلى مشكلات اقتصادية أكثر عمقا مما نتوقعه، ذلك أنها تزيد من عدم التساوي الذي يعانيه الاقتصاد العالمي والاقتصادات المتقدمة حتى قبل الجائحة، لكنها ستكون أكثر وضوحا بعدها. كما أن هناك دعما من قبل الدول المتقدمة كما تشير تصريحات الصندوق الدولي، فالنمو المتوقع في الاقتصاد الأمريكي يأتي بفضل الزخم القوي الناتج عن الدعم الإضافي بقيمة 900 مليار دولار الذي أقر في كانون الأول (ديسمبر)، وهناك حزمة دعم جديدة قيمتها 1.9 تريليون دولار، وأن النتائج الجيدة لهذا الدعم حثت الصندوق على دعوة الدول إلى مواصلة دعم اقتصاداتها لحين عودة النشاط إلى طبيعته. لكن رغم هذه الدعوات فإن القلق لم يزل قائما حول قدرة القطاعات الاقتصادية المختلفة على الاستفادة من هذا الدعم، ذلك أن بعض القطاعات توقفت تماما، كما أن البطالة ارتفعت فعليا، والأرقام الإجمالية لم تعد قادرة على بناء صورة واضحة عن حالة الاقتصاد العالمي أو حالة اقتصاد أي دولة، لهذا من الأفضل توجيه الدعم بحذر وذلك اعتمادا على الأرقام التفصيلية للقطاعات وأن يتم توزيع أرقام البطالة بشكل يتناسب مع أشكال الوظائف والقطاعات، والعمل على معالجة الاختلالات لكل قطاع على حدة.