احسان بو حليقة 

هل نكدس المال لنورثَه أم لنصنع منه مجداً أم الاثنين معاً؟ وما الوسيلة لذلك؟

راتان تاتا، بليونير هندي مميز، فقد أخذ شركة «تاتا» من كونها شركة محلية حتى أصبحت عالمية، حيث قام بعددٍ من الاستحواذات المدروسة بعناية فائقة وفي مجالات عدة، لعل من أكثرها صدى استحواذ شركته على لاند روفر وعلى جاكور! وهو صاحب المبادرة التي قلبت سوق السيارات في الهند عندما أنتج سيارة «النانو» لتباع بأقل من ألفي دولار، التي تندر بها منافسوه في البداية، ثم تركوا ذلك وتدافعوا ليقلدوها بشتى الوسائل والطرق، وحالياً ثلاثة من منافسيه في صناعة السيارات الهندية ينكبون لصنع منتجات منافسة.

ما دفعني للحديث عن تاتا اليوم ليس ثروته بل صورة شاهدتها مؤخراً التقطها شاب هندي على متن طائرة، لم تك طائرة السيد تاتا الخاصة بل كانت له جالساً في مقعد في الدرجة السياحية! والقضية ليست مجرد انطباع عابر، فقد يقول أحدكم: لعله لم يجد مقعداً في الدرجة الأولى! بل كان ملفتاً انتقاده لأثرى أثرياء الهند موكيش أمباني لبنائه منزلاً باذخاً، قائلاً: كان بوسع موكيش أن يحسن أوضاع الآلاف من الفقراء. ولعل أفضل ممارسة عالمية في التعامل مع الثروات الكبيرة هي ما قام به بل جيتز، من تخليه عن جل ثروته وتأسيس صندوق باسمه واسم زوجته للأعمال الخيرية، وقد استقطب للصندوق أثرياء العالم، ومنهم راتان تاتا.

حث ديننا الحنيف على أعمال الخير، وجعل لذلك مداخل متعددة منها الوقف، كما أن سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانت تنم عن حياة الزهد والبساطة والبعدّ عن التكلف، والحرص على الايثار ومواساة الفقير ومساعدته، وليس من شك أن مَنّ يسعى للخير بيننا كثيرون، ومع ذلك فمن مفيد التذكير بأن تحقيق ثروة عريضة يعني نجاحاً شخصياً، أما توظيف تلك الثروة لخدمة المجتمع فيجعل النجاح انسانياً-اجتماعياً؛ فبوسع أحدنا أن ينفق ثروته ليعيش حياة باذخة تتمحور حول اسعاد الذات، أو أن يجعل في حياته متسعاً للاهتمام بمن حوله، فيهتم بأسرته القريبة والبعيدة، أو أن يعمّ ليشمل العالم بأسره، وقد تابعنا جميعاً عندما أتى بل جيتز لجدة قبل أسبوعين في زيارة خاطفة ليتشارك في الاجتماع 39 لمحافظي بنك التنمية الإسلامي، حيث أعلن عن مشاركته في صندوق لمكافحة الفقر، قيمة الصندوق 2.5 مليار دولار، ويرتكز نشاط الصندوق في الدول الأكثر فقراً ليمكنها من إطلاق برامج لتخفيف حدة الفقر والمرض على رعاياها.

وما يستحق الإشارة هنا أن السعي للعيش حياة هانئة وليس حياة باذخة هو الأساس، فالإشباع عند شخص حقق نجاحات مالية كبيرة هو أن يحصدّ المزيد من النجاحات بحفر أثره في القلوب عبر مساعدته للكثيرين في حياة أفضل كما أتيحت له الفرصة. وهنا أعود لبرامج الوقف؛ ففي السابق كانت الوقفيات منتشرة، وميزة الوقف -كما نعلم- حبس الأصل وإنفاق الريع على أوجه محددة كمساعدة الفقراء أو تمويل برامج علمية أو مساعدة الأرامل والمطلقات والأيتام من المستضعفين، وبعض تلك الأوقاف منتشرة في أنحاء المملكة، منها ما يعود تأسيسه لمئات السنين، وهذا لا يعني أن وقف الأموال لأغراض الخير قد انتهى، فثمة أوقاف تستجد دائماً، أما النقطة هنا أن للبذخ حدودا يجب ألا يتجاوزها وإلا أصبح سفهاً، وأن التمتع والعيش في بحبوحة وسعة أمر لا يتعارض مع الانفاق على أوجه الخير وهي متعددة وبعضها غير تقليدي، فمثلاً سمعنا عن وقفية جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وأوقاف جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولنتصور أن كلا منا سعى ليساهم في وقفية، الكلمة الأساس هنا «يساهم» من سهم، فكما أن هناك شركات مساهمة هادفة للربح فالمجال يتسع لقيد أوقاف مساهمة لإنشاء مشاريع اقتصادية تقوم على استثمار الأصل وانفاق الريع على أوجه الخير.

أعود للسيد تاتا الذي تقدر ثروته بمليار دولار، وهو ينتقد بذخ موكيش رئيس مجموعة ريلاينس الهندية، الذي تقدر ثروته بنحو 25 مليار دولار. وهنا، ليس موضع انتقاد لأحد بل لبيان أن على كل منا إدارة المال واضعاً المجتمع في اعتباره، ففي الدول الأخرى توضع الضرائب المتصاعدة على أصحاب الثروات، ليدفعوا ما قد يزيد عن ثلاثة أرباع دخلهم ضرائب، ومع ذلك نسمع عن الوقفيات والبرامج المبدعة لإعادة توزيع الثروة، نحن لسنا الغرب ولا توجد لدينا ضرائب لكن توجد لدينا قنوات عديدة لتعزيز التآلف بين الغني ومجتمعه المباشر ويتجاوزه لمجتمعات أخرى، وليستمر ما استمرت صدقة الوقف جارية.

المصدر: صحيفة اليوم