د.زهير الحارثي - جريدة الرياض

عدد القراءات: 1264

العدالة، ومنذ المجتمعات البدائية القديمة والى يومنا هذا، لم تزل تشكل هاجسا مهيمنا على الوعي الاجتماعي، على اعتبار ان مضمونها النسبي ما فتئ يؤثر في دواخل الانسان، حيث قناعة الضمير وراحة الذات، ولكي تتحقق فانه لا بد من وجود إرادة، لان ما يوّلد هذه العدالة هو رغبة الانسان ذاته، وهي بمثابة الدافع للسمو الحضاري الإنساني.

وفي هذا السياق يثيرنا سلوكيات الانسان وافعاله وعوالم انسانيته وموقف الأديان والثقافات والحضارات منها.

وبإلقاء نظرة على الفلسفة الغربية قد نخرج منها بومضات فكرية، كون غرضنا هنا هو المعرفة وتوسيع حيز الادراك وليس إعطاء الاخرين حجما أكبر من حجمهم الطبيعي او التقليل مما لدينا من معارف وتراث. ولذا دعونا نتأمل الفكرة بالعودة لصلب الموضوع، فحين الحديث عن فعل الانسان فانه عادة ما يصدر من العقل الذي كان قد شرّحه الفيلسوف كانط في مذهبه المثالي، والذي ربط فيه معنى القانون الخلقي بمفهوم الارادة الصالحة التي يفرضها الواجب، والتي بها يتحقق الخير الاجتماعي.

كما ان المفكر الانجليزي (كليفورد) كان قد همس منذ زمن ليس بالقريب ان لكل انسان ذاتين فردية واجتماعية (شمولية النفس)، وان لحظة نشوء الصراع ما بين هاتين الذاتين، تكون ولادة (الضمير)، فيتحقق الخير الاجتماعي (الاخلاقي)، وهو ما يكرس قدرة الجماعة وبقاء الانسان.

اذن هي الاخلاق التي يكمن فيها السر. هذه الاخلاق ايضا رأى فيها جان جاك روسو (صاحب العقد الاجتماعي) عمليتي التلاقح والافراز، اي تلاقح العقل (السياسة) والضمير (الاخلاق) لتأتي مرحلة الافراز، اي انتاج القانون (العقد). ما يعني ان السلوك الاخلاقي هو الذي يحفظ نمو الحياة وفق تعبيرات المفكر هيربرت سبنسر.

رب قائل يتساءل ما الذي نريد قوله من كل ما سبق؟

ببساطة نقول ان الانسان هو المسؤول عما يتخذه من قرارات لاسيما فيما يتعلق بتغذية التعايش الإنساني، فضميره وعقله هما صاحبا الكلمة النهائية فيه.

غير ان من يتمعّن في التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية والصراعات والحروب وما نتج عنها من اهتمام بحقوق الانسان، يصل إلى قناعة واضحة تتمثل في وجود قواسم مشتركة بين ما جاءت به الأديان والشرائع وما توصلت إليه الثقافات والحضارات من مفاهيم ومبادئ.

طبعا يرى البعض أن حقوق الإنسان في الفكر الأوروبي الحديث كانت قد صدرت عن العلمانية (العقل)، في حين أنها صدرت في الإسلام عن الدين (النص الإلهي). وفي هذا بعض الصحة، إنما الأكثر صحة هو أن الشريعة الإسلامية جاءت بأحكام شمولية وثابتة، مرسخة مفاهيم العدل والتسامح والإخاء والمساواة.

إن حقوق الإنسان وحدة متماسكة وغير قابلة للتجزئة يتمتع بها جميع الناس دون تمييز، مرتكزين في ذلك على النص القرآني الكريم (ولقد كرمنا بني ادم). ومع ذلك نقول إن غايتهما واحدة، وان اختلفت المرجعية والظروف التاريخية.

ولذا جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي قبل ستين عاما، ليبلور مفهوم العالمية في مجال حقوق الإنسان، جاعلا هذا المفهوم الحقوقي جزءاً مهماً من القانون الدولي، فضلا عن تأكيده لشمولية هذه الحقوق، وبالتالي لا نستغرب إذا ما علمنا انه تولدت منه أكثر من مئة معاهدة واتفاقية وعهد دولي، وافقت وصادقت عليها معظم دول العالم، ما جعله المرجعية الدولية لحقوق الإنسان.

ان مفهوم حقوق الإنسان شكّل في وقتنا الراهن مصدراً جديداً للشرعية لأي نظام سياسي، بل وتحديا للأفكار التقليدية للمدرسة الواقعية حول العلاقات الدولية، ما نتج عنه تحول في مفهوم الدولة وواجباتها. ولذا فمن يطلع على التقارير الدولية يجد ما بين جنباتها انتقادات للحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان وما تمارسه ضد مواطنيها من أساليب. وهو الذي جعل من الرقابة الدولية أمراً مطلوباً، ما جعل المناداة بحماية حقوق الإنسان، قانوناً وواقعاً بعدما كانت شعاراً مثالياً قاصراً على المجتمعات المتقدمة.

طبعا من النادر جدا أن يخلو بلد من البلدان من انتهاكات حقوق الإنسان بما فيها البلدان المتقدمة وتلك التي حققت طفرات نوعية في تنميتها الاقتصادية ومؤسساتها الدستورية، وأشاعت الحريات بمختلف مضامينها وقد تتفاوت المعايير في نسب احترام وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان من بلد إلى آخر، إلا أن الدول النامية كان لها النصيب الأكبر من تلك الممارسات.

ومع ذلك فهناك مفارقة بين مفاهيم حقوق الإنسان العالمية وبين أساليب بعض دول الغرب التي تتمظهر بشكل سافر في الانتقائية وتطبيق المعايير المزدوجة، حيث ينكشف هذا الخلل عندما تمارس هذه الحقوق داخل بلدانها، في حين أنها تضرب بها عرض الحائط عندما تتعامل بها خارج بلدانها أو تمارسها مع الغير.

الغرب يتكلم لغة مختلفة حين يأتي الأمر على حقوق الشعوب المسلمة فضلا عن ممارسات إسرائيل المجرمة مع إخواننا الفلسطينيين. ولذا فإشكالية الغرب تحدث عندما يدخل في صراع بين المبادئ والقيم مع المصالح والمكاسب، ولذا يرى البعض أن التمسك بكونية حقوق الإنسان هو أحد الطرق الناجعة لمواجهة هذا التناقض الفاضح.

صفوة القول: أصبحت ملموسة عالمية حقوق الإنسان التي رغم انها تحمل ما بين جنباتها اختلاف الثقافات والمرجعيات، الا انها أجمعت كلها على كرامة الانسان جاعلة من الخصوصية الثقافية إثراء لها، ما يعني انها قطعت شوطا طويلا فباتت إلى دائرة الالتزام أقرب.

المصدر : جريدة الرياض - الثلاثاء 1435/10/30 هـ. الموافق26 أغسطس 2014