العنف الأسري.. جرائم كثيرة يخفيها التكتم والعيب الاجتماعي.. ويكشفها الاكتئاب والمخدرات
– هيئة حقوق الإنسان: رصدنا 500 قضية تعنيف.. وزارة العدل: توجد 606 حالات عنف ضد المرأة والطفل داخل المحاكم العام الماضي فقط.
– لا بد من توفير الدعم النفسي والاجتماعي وتشجيع المجتمع وأفراده على التعبير عن همومه ومشاركة معاناته مع الآخرين.
– د.علي زائري: كثرة جرائم العنف الأسرى مؤشر على زيادة الضغط النفسي والمعاناة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع.
– مدير “الحماية الاجتماعية”: بلاغات الحالات الخطيرة والطارئة يتم التنسيق فوراً مع الجهات الأمنية للتعامل معها.
– د.أريج داغستاني: ينبغي على الآباء والأبناء التدرب وتوجيه المشاعر وتفريغ الانفعالات حتى لا يسقطها على عائلته.
– د.محمد السعيدي: الإسلام دين الرحمة مع الآخرين.. فكيف بالأقرباء والأهل.
كشفت إحصائية صادرة عن هيئة حقوق الإنسان، ارتفاعاً في نسبة العنف الأسري محلياً بلغت نحو 45٪؛ الأمر الذي دفع بعض الاختصاصيين والجمعيات الأسرية إلى الدعوة للقيام بحملة وطنية للتوعية بهذا الأمر؛ مطالبين الجهات المعنية بتبني الموضوع، والسعي فيه من أجل الحد من العنف الأسري، وحماية النساء، والأطفال من جميع أنواع الاعتداء.
وسجلت جرائم العنف الأسري -وفق الإحصاءات- أعلى مستوياتها خلال العام المـاضي، مقارنة بالسنوات التي تسبقها، وبرغم التفاوت؛ فإن هناك ارتفاعاً ملحوظاً.
وبحسب هيئة حقوق الإنسان؛ فهناك 500 قضية تعنيف أسري العام الماضي، وبحسب وزارة العدل فهناك 606 حالات عنف للمرأة والطفل داخل المحاكم؛ حيث سجلت منطقة مكة المكرمة -وفق آخر إحصائية- أعلى نسبة تعنيف للمرأة من باقي المناطق، بواقع 314 قضية، وبنسبة 69% من إجمالي قضايا العنف التي بلغت 459 حالة؛ منها 195 قضية لأجانب، و119 لمواطنين، كما استحوذت أيضاً على أعلى نسبة عنف للأطفال؛ إذ بلغ إجماليها 71 حالة.
916 حالة
تواصلت “سبق” مع مدير عام الإدارة العامة للحماية الاجتماعية عبدالله المحسن؛ لسؤاله عن ما نشر من وجود 916 حالة عنف أسري خلال ٣ أيام من تدشين المركز، فأجاب: الرقم الذي تم توضيحه هو عدد المكالمات الواردة، وليس عدد بلاغات العنف؛ فبعض هذه البلاغات كانت طلب استشارات اجتماعية أو نفسية أو استشارات عن خدمات الوزارة، ودور المركز التابع لها.
وعن معرفة أنواع العنف الأسري التي يتم الإبلاغ عنها، قال “المحسن”: يتمثل بين عنف جسدي وجنسي ونفسي وإهمال.
وأوضح أن المركز يختص باستقبال البلاغات عبر الاتصال المباشر أو التحويل من الجهات الحكومية ذات العلاقة، وإحالتها لوحدات ومراكز الحماية في جميع مناطق السعودية.
موضحاً أن بلاغات العنف تَحدث بين أفراد الأسرة الواحدة، وهذه لها معاملة خاصة، والحالات الخطيرة والطارئة التي تشكّل خطراً على أي فرد، وتُهدد حياته؛ فإنه يتم التنسيق فوراً مع الجهات الأمنية للتعامل معه.
الوصمة الاجتماعية
فيما أفاد استشاري الأمراض النفسية د.علي الزائري أن كثرة الجرائم بسبب العنف الأسرى مؤشر يدل على زيادة الضغط النفسي والمعاناة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، ومقابل كل جريمة نسمع بها هناك جرائم كثيرة لا نسمعها ولا تصل إلى أسماعنا بسبب التكتم وإخفاء الحقائق بسبب الخوف من العيب الاجتماعي والمحاسبة القانونية.
وعن تأثير العنف على الأطفال، قال: لا يقتصر على الاضطرابات النفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة، وهو نوع شديد من أنواع القلق النفسي الذي قد يستمر مدى الحياة؛ ولكن الطفل يصاب بالاكتئاب وزيادة القابلية للانحرافات السلوكية، واستخدام المخدرات، وإعادة سلوك العنف على الآخرين؛ حيث أظهرت الدراسات أن الآباء المعنفين لأبنائهم كانوا معنفين في صغرهم؛ إذ إن الضريبة التي سوف يدفعها المجتمع في عدم تدخله في حل المشكلة هو تزايد العنف بداخله بطريقة لافتة للنظر.
ورأى “زائري” أن ما نراه من تزايد ظواهر العنف؛ هو أحد نتائج عدم التدخل المجتمعي في أوقات سابقة ومبكرة.
موضحاً أن تقليل حالات العنف يبدأ أولاً بالاعتراف بالمشكلة، وعدم تغطيتها أو التبرير لها، وتقليل شأن ما يحصل أنه حالات شاذة ونادرة، كما ينبغي علينا بعد ذلك توعية الأسرة وتثقيفها، وتوفير حلول عملية تساعد أفرادها في التعامل مع مشاكلهم المختلفة، وتعليمهم مهارات التخلص من الضغوط، مع فتح قنوات الحوار والتفاهم والألفة بينهم، وتقبل بعضهم البعض مهما كانت الخلافات، وتطوير مهارات الحوار، والتواصل.
الدعم النفسي
ونادى الاستشاري النفسي بأهمية توعية الأسرة بمعرفة حدود كل فرد من أفرادها؛ فلا يحق لطرف الاعتداء على الآخر تحت التربية أو تعديل السلوك، مع وضع ضوابط محاسبة لأي نوع من أنواع التعنيف اللفظي والنفسي والجسدي والجنسي والمالي والاجتماعي، والاستفادة من المنابر المختلفة لإيصال الرسالة المجتمعية لأكبر شريحة ممكنة لتعم الفائدة.
وتابع: علينا توفير الدعم النفسي والاجتماعي للجميع، وتشجيع المجتمع وأفراده على التعبير عن همومه ومشاركة معاناته مع الآخرين، مع التخلص من كلمة العيب التي نقولها لمن يشتكي أو يبكي؛ مثل مقولة “إن البكاء للنساء والرجل لا يبكي”، أو إذا اشتكى أحد اتهم بأنه بعيد عن الله، وكثير من العبارات الخاطئة التي طالما صرفت النظر عن المشكلة الحقيقية، وتعطي لها المجال حتى تتفاقم وقد تصل إلى كارثة.
وختم حديثه قائلاً: إن طبيعة الحياة التعب حتى بدون وجود الجريمة، وما زال الإنسان بحاجة إلى الحب والحنان والمواساة من بيئته المحيطة؛ فتلك هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، واسترشد بالحديث الشريف: “إنما يرحم الله من عباده الرحماء”.
التربية والترويض
وأوضحت استشارية العلاقات الأسرية د. أريج داغستاني أن العنف هو تعبير عن القوة الجسدية، واللفظية، والنفسية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة، أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى؛ حيث يتصل العنف بصورة مباشرة بالأساليب الخاطئة للتعبير عن الغضب؛ فهو يعكس ما تَرَبّى ونشأ عليه الإنسان من خلال بيئته؛ لافتة إلى أن الغضب مشاعر إيجابية كأي مشاعر خلقها الله عز وجل لتحقيق هدف للإنسان؛ ولكن سوء استخدامنا وتعبيرنا عن هذه المشاعر هي الشماعة التي نعلق عليها أخطاءنا ورجعيتنا.
بسؤالها عن أيهما أدى إلى الآخر؛ العقوق أم العنف؟ أجابت: إذا شبهنا العلاقة الأسرية بالشجرة التي يستظل بها الأبناء؛ لعرفنا أن عنف الآباء سبب رئيس في عقوق الأبناء؛ لأنهم يتعاملون بغير ما فُطروا عليه من تكريم الله عز وجل لهم؛ مشيرة إلى أن الإنسان حين يربي أطفاله لا بد أن يكون قادر على التربية، وترويض ذاته؛ وإلا لن يكون كفؤاً لتربية بذرة يانعة لتصبح شجرة يستظل تحتها الآخرون.
وعن كيفية تغيير صورة العنف في ذهن الفرد، قال “داغستاني”: إن العنف هو مثير انفعالي له عدة اتجاهات فكرية وسلوكية وانفعالية؛ لافتة إلى أن الإنسان يحتفظ بالتجارب كصور في الذهن.. وحتى تتغير الصورة لا بد من توفر تأهيل للمعنف لفهم ذاته؛ بحيث يعاد تركيب وصياغة المفاهيم في ذهنه، وتشكيل سلوكه، وتحويله إلى سلوك إيجابي، كما ينبغي التدرب على الآليات لتوجيه مشاعره وتفريغ انفعالاته حتى لا يسقطها على الآخرين، ويشعر بالتوازن.
انهيار الأخلاق
من جهته، أكد أستاذ أصول الفقه في المعهد العالي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د.محمد السعيدي، أن الإسلام دين الرحمة مع الآخرين؛ فكيف بالأقرباء والأهل؛ منوهاً بأن العنف محرّم في شريعة الإسلام؛ لا سيما الإفراط فيه، واستخدامه في غير موضعه؛ مسترشداً بقوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}.
ولفت إلى أن هناك أموراً جديدة دخيلة على بلادنا، ساهمت بشكل كبير في انتشار العنف؛ من أهمها: (المخدرات، وانصراف الآباء عن الأبناء، وعدم انصياع الأبناء لآبائهم، ووجود العديد من حالات العقوق التي امتلأت بها محاكمنا، إضافة إلى كثرة القنوات الفضائية وألعاب البلايستيشن التي جعلت أخلاق الناس تضيق وتغيرت نفسيات الفرد).
وبسؤاله عن إمكانية حل ظاهرة العنف في المجتمع والحد منها في المرحلة القادمة، قال أستاذ أصول الفقه: مع الأسف لن تقلّ طالما هناك غياب للحسم المجتمعي الذي ينبغي أن تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية؛ ذاكراً قول الله تعالى {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، ثم تابع قائلاً: ليس من أهداف “الشؤون الاجتماعية” أن تجعل الفرد قادراً على علاج أدوائه بنفسه.
وطالَبَ بضرورة وجود محاضن تربوية غير المدرسة؛ مستنكراً غياب النشاط الثقافي والاجتماعي من جميع النوادي، والاكتفاء بالنشاط الرياضي فقط.
وختم حديثه برسالة وجهها إلى كل مَن تُسَوّل له نفسه استخدام العنف في التعليم والتربية؛ قائلاً في الحديث الشريف: “ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء”.