عبدالله عبدالكريم السعدون

يتحدث الناس عن الفساد وسبل مكافحته، ويتحدث أكثرهم بتشاؤم عن صعوبة نجاح الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في مهمتها، نظراً لصعوبة مكافحة الفساد بعد انتشاره، لكنني متفائل بنجاح الهيئة في مهمتها لنبل المهمة وللإرادة السياسية العليا التي تمثلت في ما أصدره خادم الحرمين من أوامر لدعم الهيئة وضرورة الرد على جميع استفساراتها وملحوظاتها خلال ثلاثين يوماً والإفادة عما تم حيالها.

لا أعتقد بوجود ما يهدد أمن الدول ويبقيها متخلفة كالفساد، ذلك أن الكل في ظل وجود الفساد خاسر لا محالة، فالوطن يخسر الكثير من قوّته ومصادر دخله، ويخسر خبرة خيرة أبنائه، والمواطن يخسر بتدني الخدمات العامة، وأما المشارك في الفساد فيخسر دينه ودنياه.

ولا يقتصر الفساد على سرقة المال العام، لكنه يتمثل في هدر الوقت المخصص لأداء الأعمال في القطاعين العام والخاص.. في جلسة ضمت بعض المسؤولين السابقين وبعض من لا يزالون على رأس العمل، كان محور الحديث هو سبب خلو مدننا من النقل العام الفعال والشامل، والذي سبب ضياع الكثير من المال والجهد والأرواح وزاد التلوث ومعه كثرت الأمراض المصاحبة، وقال أحدهم: كنت في اجتماع قبل أكثر من اثني عشر عاما مضت ضم مندوبين من وزارة المالية والبلديات ووزارة النقل وهيئة تطوير وبعض المستشارين من خارج المملكة لوضع خطة للنقل داخل المدن، ولا تزال الخطط تدرس والإستراتيجيات تراجع وتسير من دائرة إلى أخرى تمشي الهوينا وترتاح في كل دائرة سنوات تنام هانئة في أدراج مقفلة، حتى إذا أذن لها أن تتحرك، فإنها تخضع للدراسة مرة ثانية بموظفين جدد وأفكار جديدة وكلهم حماس ونشاط، وبعد عدة أشهر يصيبهم ما أصاب من قبلهم وتعود الدراسة إلى المربع الأول الذي بدأت منه، والسبب هو عدم وضع وقت محدد للدراسة والتنفيذ وغياب المساءلة، ما يضطر المسؤول فيما بعد إلى اللجوء للحلول المجزأة وردود الأفعال السريعة التي تشبه إطفاء الحرائق، فهي مكلفة وغير فعالة على المدى البعيد، كما أنها تصرف المسؤول عن الأخذ بالحلول الناجحة المجربة التي أخذت بها الدول المتقدمة.

حين نحلل ما أصاب الدول التي حلّ بها الربيع العربي وخريفه نجد أن أهم العوامل التي ساهمت في حدوثه هو الفساد بأنواعه، أما التدخل الخارجي فهو كالمرض لايمكن أن يخترق الجسم إلا إذا فقد المناعة، وقد رأينا ذلك في الدول العربية المستقرة والتي منها المملكة، فقد كان لخطوات الملك عبدالله الإصلاحية الأثر الكبير في تجنيب المملكة ويلات الأزمات والقلاقل. وهذا لا يعني خلو المملكة من داء الفساد، فالفساد يلحظه كل مواطن ويراه حال خروجه من بيته وفي مكان عمله وفي تنفيذ المشاريع من طرق ومستشفيات ومدارس وحدائق، وفي تأخر المعاملات إلى غير ذلك، لكن الإصلاحات المستمرة والقرارات التاريخية التي اتخذتها القيادة والوفرة المالية التي تعيشها المملكة ساهمت في تقليل أضراره.

المملكة هي بلاد الحرمين ومهبط الوحي وقبلة المسلمين، لذا يجب أن تكون قدوة لكل مسلم، والنموذج المحتذى من بقية الدول العربية والإسلامية، يجب أن يلمس خلوها من الفساد كل مواطن ومقيم، يراه في المطارات والطرق وفي سلاسة المرور وحسن التعامل، في نظام التعليم والصحة، ولن يتسنى ذلك إلا بالتركيز على العوامل الآتية:

الوزارات والهيئات والمؤسسات هي المسؤولة عن التخطيط والتنفيذ وهي بحاجة دائمة إلى دماء جديدة وإلى تغييرات مستمرة، ولا يقتصر ذلك على المسؤول الأول في الوزارة، لكن النواب والوكلاء والمديرين هم الأوْلى بالتغيير والتدريب والبحث عن أفضل الكفاءات الشابة ليحلوا محل الكفاءات القديمة التي أعطت وملّت من العمل، ولا شيء كالدماء الجديدة لتجديد الخلايا وزيادة النشاط ومكافحة الفساد.

الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، لكن تختلف ثقافته حسب ما يؤمن به وما يتعلمه وما في المجتمع من عادات وتقاليد وقيم ومبادئ، وقد ثبت على مرّ التاريخ أن وفرة المال تعد من أهم أسباب إفساد الضمائر ما لم تتوفر المراقبة والمحاسبة، فمن السهولة أن يبرر الفاسد سبب إقدامه على سرقة المال تحت أعذار ومسميات كثيرة، لكن المراقبة والمحاسبة والعقاب كفيلة بردع الفاسد وتكريم النزيه ومكافأته.

يقول “لي كوان يو” رئيس وزراء سنغافورة وباني نهضتها: تنظيف البلد من الفساد من أصعب المهام وأكثرها تعقيداً، وما لم يبدأ رئيس كل مؤسسة بنفسه فلن ينجح في هذه المهمة الصعبة، ثم ضرب مثالاً جميلاً وهو تنظيف الدرج الذي يجب أن يبدأ من أعلى إلى أسفل، وأشار إلى نفسه الذي خضع للمساءلة أكثر من مرّة، وكيف تم التحقيق مع وزير اتهم بالفساد ما حمل ذلك الوزير على الانتحار قبل انتهاء التحقيق معه.

المملكة مهيأة في الوقت الحاضر لمكافحة الفساد لوجود قيادة أدركت خطره، وخادم الحرمين الشريفين هو أكبر الداعمين والداعين إلى محاربته، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف ولي العهد هو أكثر العارفين بخطره على الأمن والاستقرار والرخاء، لذا فمحاربة الفساد من ضمن أهم أولوياته وخصوصاً جهود سموه في وزارة الداخلية وعلى الأخص المباحث الإدارية وجهودها الموفقة.

لابد من تعزيز دور ديوان المراقبة بسرعة تحديث نظامه وتزويده بالكفاءات، وتعزيز دور هيئة الرقابة والتحقيق ومجلس الشورى ليتكامل العمل وتتضافر الجهود.

هيئة مكافحة الفساد وحماية النزاهة يجب أن تكون أقوى الهيئات وأنشطها وقد أعطيت الدعم اللازم من أعلى سلطة، لذا عليها أن تسير في طريقها الصعب بكل ثقة وعزم وإصرار وصبر وبأهداف محددة.

المصدر:صحيفة الرياض