تقاسيم (بين الفقر واليتم!)
علي القاسمي
أشد من وطأة «الفقر» على الجسد وجع «اليتم»، وضعت اللغة كليهما على بعد ثلاثة أحرف من مرمى الحياة، تركيبتهما الثلاثية تختلف في أن الأول مفتوح من البداية على مصراعيه للخارج، ترقباً للغة التأويلات والتخمينات ولحظات الانتظار والبهجة لما قد يأتي فجأة أو يهطل من السماء. و«اليتم» مضموم من أوله إلى الداخل على المفقود من أوراق الحنان، وصفحات الأبوّة والأمومة والدموع وخطى الأمل المتنقلة بثقل لا يشبهه أحد. يعرفان الدرب والطريق لما يُعرف شكلياً بـ«الحاجة»، فأحدهما ينتظر قوت يومه ليكشف عن ابتسامة تكفي شهراً، والآخر مترقب لمسحة على الرأس أو ضمة من جسد لن يعود، ورائحة لا تتكرر، ولن يأتي الزمن بما يشبهها.
إن حدث واجتمعا في أحضان إنسان فلن يختلف من بعده الجمع على حصر ورثة أو قطعة أرض، درب الجريحين درب صمت طويل وإن خذله ترديد «آه» متقطعة مع كل لمحة مقارنة بالآخرين، الفقر لا يبكي، هو يتخذ الصوت منقذاً موقتاً لطريق طويل وزحام أطول، متى ما رأى حزمة أمل أو قشة نجاة علق وتعلق بها، أما اليتم فخليله «الدمع الخفي»، لمصلحتهما بالتساوي يرتسم في الوجه خطين متوازيين بالطول، كملامح آثار الحياة وتجاعيدها وقسماتها ومناظر القسوة البالغة التعقيد على رغم أنف الزمن، وخطين آخرين متوازيين بالطول كطريقين سريين للدمع حين تستدرج الذاكرة ما لذ وطاب من الأسماء والأصوات واللحظات.
يُعرف الفقر من الثوب الرث وبحة الصوت ونداءات المساء الخجولة وجبال الصمود التي يتدثر بها الجسد في النهار، ويُكتشف اليتم من الصمت الخجول، والالتفاتة لمرور مفردة حب، والخضوع لكل ما له رابط بحنان وعطف ورحمة، الفقير ينتظر من يتعرف عليه أكثر حتى ولو كان غريباً بعيداً ، ويأمل بسبات مريح ليلة واحدة تنعم به عناصره وأطرافه، أما اليتيم فيجامل كل ما يعترض طريقه من الوجوه والأيدي، ويحترم قدراتهم وروحهم، يقبّل جراحهم وإن كانت تقهر جراحه، يطمئنهم بأنه إلى الأعلى، والحقيقة تقول إنه على موعد متكرر لمصافحة الذكرى المؤلمة لاستعادة وجه أب وقامة أم.
نحضر إلى الفقر «الرفق» ونعرف منه بدقة ما «الفرق» بين وجهين وحالين، وننبش مع اليتم أرضه «الميتة» حتى وإن ظهرت في ثوب أنيق وروح حالمة، بين الجريحين توافق تام ونقاط التقاء في خريطة القهر والعنف، والقلة والعجز، والقسوة والعيب، لم يجبرا أن يرتديا الثوب ذاته أو تلك الملابس، ولكنهم في حاجة ملحة إلى أن نكون لهم أقرب وأكثر تدقيقاً في وجوههم، وأصدق فعلاً وتفاعلاً معهم، نحن من يحتاج إليهم أكثر، فهم يعلموننا قيماً أكبر، يؤثثون مشاعرنا، يوقظون إنسانيتنا، ثم يمضون بهدوء ويتركوننا لعبثية التفكير!
المصدر: صحيفة الحياة