«حقوق الإنسان»: «عمل الأطفال».. يتلاشى
أشواق الطويرقي (مكة المكرمة) نصير المغامسي (جدة) فارس القحطاني (الرياض)
فيما قطعت المملكة شوطاً كبيرا في طريق القضاء على عمل الأطفال، حتى أن جهات رقابية كجمعية «حقوق الإنسان» أكدت تلاشيا كبيرا لعمل الأطفال صحب الجهود الحكومية الرامية للقضاء على القضية.
أكد رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتور مفلح القحطاني لـ «عكاظ» إكمال المملكة لمنظومتها القانونية في مجال حماية الطفل، «وهي تتوافق مع اتفاقية حقوق الطفل التي وقعت عليها المملكة أخيرا»، مبينا أن تشغيل الأطفال في المملكة غير ملاحظ بشكل كبير.
وقال القحطاني: إن وجود بعض الحالات الفردية -وهي قليلة جدا- لا ينطبق عليها مفهوم العمل والتشغيل التي تحدث مع الأطفال في الدول الأخرى الذين يعملون في المهن الشاقة والثقيلة بالمصانع والبناء»، مستدركا أن الحالات القليلة عادة تكون في الأعمال التجارية التي تخص الأسرة.
وأوضح القحطاني أن بين تلك الحالات التي رصدتها الجهات المختصة في البلاد، الأطفال العاملين في مهن بسيطة كالبيع عند إشارات المرور والأماكن العامة أو الذين يتم استغلالهم عن طريق بعض العصابات للعمل في التسول، سواء كانوا من المقيمين بشكل غير نظامي أو الأطفال الذين يأتون عن طريق التهريب عبر المنافذ الحدودية. ورأى أن أوضاع الأطفال في المملكة جيدة، ويتمتعون بجميع حقوقهم في التعليم والعلاج وغيره، وأن بعض الحالات التي أسماها بـ «الشاذة» تتم معالجتها في حينها، مؤكدا عدم تلقي الجمعية أي شكاوى في هذا الجانب سوى الحالات التي رصدتها الجهات الرقابية كالتسول والبيع عند الإشارات.
وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية أعلنت عدداً من التشريعات التي تحد من عمل الأطفال عبر لوائح تنظيمية ورقابية.
«عكاظ» التقت بأطفال يعملون في مهن تبدو صعبة عليهم، بيد أنهم يشيرون خلال حديثهم إلى قناعات مختلفة حول أسباب علمهم، فمنهم من يريد أن يساهم في تكاليف المعيشة لأسرتهن إذ يستشعر المسؤولية، ومنهم من يحاول أن يكون ثرياً محمولا بأحلام كبيرة. مشهد الأطفال العاملين بدأ ينخفض بشكل حاد، حتى أن الصحيفة احتاجت لكثير من الوقت للبحث عمن يريد الحديث ونقل قصته، في كبريات المدن السعودية (مكة، الرياض، جدة).
أطفال يحاكون «الأشداء».. غلظة في الصوت ونباهة بالرد
رغم الجولات الميدانية للجهات المعنية بمكافحة عمل الأطفال في المدن السعودية، إلا أن مشاهد الأحداث العاملين في القطاعات المهنية اليدوية لم تختف تماما، ففارس موسى الذي أكمل ربيعه الـ14 قبل عدة أشهر يعمل في بيع قطع غيار السيارات في أحد المحلات التجارية في العاصمة المقدسة؛ ليعول 9 أفراد من عائلته.
فارس بدا متحفظا بعض الشيء خلال حديثه لـ«عكاظ»، يقول إنه المعيل الوحيد لأسرته، وإن ترتيبه الثاني بين إخوته، ولايرغب في الحديث عن والده، بيد أن شقيقه الأكبر يعاني من ظروف صحية، ما جعله يتصدر حمل المسؤولية في تحسين الوضع الاقتصادي لأسرته الكبيرة.
ويوضح أن والده في نيجيريا، «لم ألتق به كثيرا، هو لا يقيم معنا في السعودية، لقد ترك والدتي وإخوتي منذ زمن، شقيقي الأكبر مريض ولديه إعاقة سمعية ولا يتمكن من الحديث، وباقي إخوتي صغار في السن»، مشيرا إلى أن والدته تعمل بشكل مستمر لتوفير حياة جيدة، خصوصا في ظل المتطلبات الحياتية الصعبة، «عملت والدتي جاهدة لتحافظ على هذه التركة الصعبة التي خلفها أبي ورحل، ولكن هذا الإرث قد قصم ظهرها المنهك من العمل ليل نهار لتوفير لقمة العيش لنا».
ويرى فارس أنه في مسؤولية تاريخية أمام إخوته الصغار وأمه المنهكة من العمل لساعات طويلة، «لقد بادرت بأن أشاركها المسؤولية وأساعدها».
قصة فارس تبدو مشابهة لحال كثير من الأطفال الذين تخلوا عن مقاعد الدراسة لينغمسوا في العمل اليدوي اليومي بسبب ظروفهم الاقتصادية، فالطفل فارس ترك الدراسة وهو في الصف الخامس ابتدائي.
لفارس الذي يتقمص شخصية الرجل المسؤول، نظرة متذمرة من أرباب الأعمال في مكة المكرمة، فهم باعتقاده لا يوظفون ذوي الاحتياجات الخاصة ولا يساهمون في حل مشكلات الأسر الفقيرة، بيد أنه سرعان ما يستدرك، «عملت في أعمال مختلفة، واليوم أحصل على 200 ريال أسبوعيا جراء عملي في قطع غيار السيارات».
في الجانب الآخر من محل فارس، يقف طفل آخر، لكنه يبدو شديد بأس، فريان البالغ من العمر 11 عاما، يعمل مع والده في ورشة لصيانة السيارات، ومنذ الصباح الباكر يصطحبه والده إلى العمل، فيما يرى والده أن ظروفه المادية تجبره على الزج بولده في العمل بدلا من توجيهه إلى مقاعد الدراسة.
وبحسرة كبيرة يقول والد ريان إنه أكبر أطفاله، «كنت أتمنى أن أراه شابا متعلما يحتل منصبا أو وظيفة مهمة في بلدنا، ولكن للأسف الظروف الأمنية والمادية التي تعيشها اليمن منذ أعوام أجبرتني على الرحيل إلى مكان أكثر أمانا، وظل طموحي بتعليم ريان لم يتجاوز مرحلة الحلم، الظروف صعبة، لقد أجبرتني على تعليمه صنعة يكسب منها المال ويساعدني في تدبر المصاريف».
أما ريان الذي جعلت منه الحياة رجلا في جسد طفل، فيرى أن العمل في الصغر يعود الرجل على الصبر، «أحب عملي كثيرا، أتمنى أن أتعلم في يوم ما، حتى أستطيع أن اكتب اسمي وأحصي الأرقام دون خطأ».
.. ويدفعون طموحاتهم نحو الثراء في عربات الخضراوات
في سوق عتيقة الشهير ببيع الخضراوات والفواكه، في الجانب الجنوبي من وسط الرياض، أحد أهم الأحياء القديمة والمجاورة لحي منفوحة (البلدة التاريخية)، يعمل أطفال على نقل الخضراوات عبر العربات الصغيرة، وترتفع أصواتهم باحثة عن الزبائن تحت درجات الحرارة المتفاوتة باختلاف فصول العام.
ظروفهم المعيشية تبدو قاسية، بيد أنهم يصرون على الظهور بمظهر الكبار، يزاحمون الباعة ويقتنصون الزبائن بأصوات تتصنع «الجهورية»، يتسابق الصبية الصغار في السوق الأشهر في تحميل وتنزيل البضائع، فشاحنات الجملة المليئة بالخضراوات بحاجة لمن يساعدهم بصف صناديق خضراواتهم في البسطات التي بدأت تشهد تنظيما.
يقول عبدالرحمن حميد (لم يكمل ربيعه الـ13)،
لـ «عكاظ» إن الزبائن يختلفون في طريقة التعامل معهم، «يوجد من يعاملنا بأخلاق ويعطينا إكرامية جيدة، في المقابل نصادف من يعطينا أقل مما نستحق مقابل تحميل العربة له بالخضراوات والفواكه وسيرنا وراءه مدة ساعتين أو أكثر».
ويعمد عبدالرحمن القادم إلى السوق منذ الصباح الباكر إلى جر عربته بشكل محترف، فبيته قريب من جامع الأمير عبدالله بن محمد (أشهر المساجد التي يُصلى فيها على الأموات في العاصمة)، ليستمر في عمله حتى الثامنة مساء.
ويوضح مهند أحمد الذي بدأ عمله قبل أسبوعين في السوق، أنه ترك الدراسة ليساعد أسرته في تحسين دخلها الاقتصادي، مضيفا «تركت الدراسة وأنا في مقاعد الصف الخامس ابتدائي، فضلت العمل على الجلوس في المنزل لمساعدة أسرتي على ظروف الحياة».
ويرى مهند أن العمل في السوق متعب أحيانا، كما أن أيام العمل تشهد ركودا في بعض الأوقات، وتدفع الأطفال للانتظار دون عمل ولا أجر، «نضطر حينها للعمل ساعات إضافية».
ويقلل أحمد خالد الملتحق في العمل بالسوق الشهر الماضي من أهمية تركه للدراسة، إذ يرى أن ظروف أسرته الصعبة تحتم عليه العمل ومساعدتهم، لافتا إلى أن «ظروفي حرمتني من اللحاق بزملائي في إكمال دراستي، كان العمل لمساعدة أسرتي واجبا، لذا تركت مقاعد الدراسة في الصف الخامس الابتدائي».
وبين العربة المخصصة لحمل الخضراوات وأحمد علاقة يفسرها بالمتلازمة، «كنت أعمل في حمل مشتريات الزبائن دون عربة، حتى استطعت أن أشتري واحدة، هي الآن لا تفارقني أبدا، إذ إنها أداة للعمل وكذلك للتنقل من وإلى السوق».
جدة: شبح أطفال
المناجم في الورش صباحاً!
عند الساعة الثامنة صباحا تمتلئ الفصول المدرسية بنحو 5 ملايين طالب وطالبة إيذانا ببدء يوم دراسي جديد، في حين توأد الطفولة في ورش السيارات وسوق الخضار في مناطق عديدة من المدن. فمحسن الطفل الأسمر الذي أكمل ربيعه التاسع قبل أيام، يعمل في إحدى الورش في جدة «معاونا» لفني يحمل أدوات الصيانة ويناول معلمه «الميكانيكي» معدات الميكانيكا.
بعد حملات توعية كبيرة قادها مهتمون في مجال حقوق الإنسان في مواقع التواصل الاجتماعي، تقلصت مشاهد عمل الأطفال في معظم الأسواق، بيد أنها لا تزال تتركز بمناطق الورش الصناعية وفي المحلات التجارية المنزوية عن الأنظار.
فمحلات بيع المفروشات، وكذلك محلات صيانة السيارات، عادة ما يشاهد فيها أطفال يزاولون مهمات مختلفة توصف أحيانا بالقاسية، فالمهمات تختلف بين معاونة البائعين، ونقل البضائع، إلى ترتيب المحل وتنظيفه. واللافت أن لكل طفل قصة لا يشترك فيها مع أحد من أقرانه.
وبالعودة إلى محسن ذي التسعة أعوام، فإن الطفل لم يسبق له تعلم القراءة والكتابة، ولا يحسن عمل أي شيء في ورشة صيانة السيارات سوى حمل كل ما يستدعيه مهندس الورشة «المعلم» من أدوات، فهو بالكاد يتحدث العربية.
معلم الورشة لم يكن مرحبا بعدسة «عكاظ» وسط تحفظ من الإدلاء بأي تصريح، وعند سؤال فني صيانة السيارات في الورشة عن سبب وجود محسن عنده صبيحة يوم دراسي، قال إنه يعامل الطفل بمنزلة أبنائه لاسيما أنه لا يحمل أوراقا ثبوتية، «أساعده على تعلم المهنة وكسب المال».
في المقابل، يشغل بعض الباعة أطفالهم في المحلات لتوفير أجور الأيدي العاملة، ولإكساب أبنائهم التدريب والخبرة العملية بجانب التحصيل الدراسي. ويوضح شعبان (عامل في إحدى الورش جنوب جدة) أنه يحرص على اصطحاب طفله للورشة في أيام الإجازات الأسبوعية، «أعمل على تعليمه صنعة تدر عليه المال وتحميه من البطالة».
فيما أشار رشيد (صاحب محل للمفروشات) إلى أن جميع أبنائه يعاونونه في المحل إذا ما فرغوا من المدرسة، بل إن بعضهم يقوم بمراجعة واجباته المدرسية داخل المحل، وهو أمر في نظره لا يؤثر كثيرا على تحصيلهم الدراسي، بل يحفظهم من الشارع كما يعتقد. وأضاف «كأفغاني مقيم، أجد أن المستقبل لأبنائي يتمثل بالتدرب في نشاطي الذي أجني منه المال وبتعلم أسرار المهنة، شريطة أن يكون ذلك موازيا للتعلم والمثابرة في المدرسة، فمهنة بيع المفروشات برعت فيها إلى جانب أبناء عمومتي، ومن المهم جدا أن يتعلم الأبناء مهنة الآباء والأجداد كي يجدوا مهنة في انتظارهم بعد انتهاء تحصيلهم العلمي».
ويبدو للزائر إلى ورش السيارات ومحلات المفروشات أن حالات شعبان ورشيد لا تبدو منتشرة كثيرا، فمعظم المحلات التي يعمل فيها الأطفال -بحسب جولة لـ«عكاظ»- لا تحتوي على روابط أسرية بين البائع والطفل العامل فيها.