من يخلق الوظائف؟
خواطر اقتصادية
سعيد محمد بن زقر
عنوان هذا المقال له صلة بالفكر الاقتصادي السائد في الدول الرأسمالية، والقائل بأن خلق الوظائف في الاقتصاد إنما يتم بنمو الشركات الكبرى وقطاع الأعمال عموماً وبافتراض أنه كلما زاد الدعم الحكومي لهذا القطاع عبر خفض الضرائب والرسوم الجمركية وفوائد الاقتراض فإن تلك الآليات تقود تلقائيا للمزيد من النمو وتشجيع الاستثمارات وتدفقاتها المالية وبالتالي خلق وظائف لمقابلة التوسع الاستثماري والطلب على السلع ومع أن هذا المنطق يبدو في ظاهره الصوري مقنعاً لدرجة محاصرة التفكير إلا أن منطقه ينقصه الترتيب والتسلسل وأيهما أولاً هل التوظيف يبدأ قبل زيادة المبيعات أم بعدها؟ لأن الممارسة الواقعية في عمل المنشآت تنفي صحة الاستنتاج والمنطلق الرأسمالي وتسلسل الأمور يقول بأن زيادة المبيعات تقود أصحاب المال للسعي لتثبيت التكاليف بهدف تحقيق معدل ربحية مقبولة ثم يبدأون التفكير في التوظيف كآخر خطوة في هذه العملية على افتراض بأن زيادة الإيرادات تشجع التوقعات بزيادة الطلب على السلع ولهذا يبدو المنطق الرأسمالي مصلحياً أكثر منه طرحاً علمياً، وهو كعب أخيل الأنانية التي لا ترى أن الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال أقل بكثير عن الضرائب التي يدفعها الأفراد الفقراء ولكن صوت المصلحة أعلى من رؤية سلبيات التباين في دفع الضرائب مقارنة بالدخول وما ينتج من حدة انقسام طبقي وتآكل الطبقة الوسطى. وفي ذلك مخاطر على المنطق الرأسمالي لأنه بقدرما يسحب الثراء من الطبقات الأقل دخلاً لصالح الطبقات الأكثر ثراء بقدرما يحدث خللاً هيكليا يؤدى لانهيار المعادلة الاقتصادية أو يجعلها تحمل عوامل فنائها في داخلها، من حيث عدم الاستدامة وأنه عاجلاً أم آجلاً سيقود تآكل الطبقة الوسطى لزيادة الفقر والفقراء وبالتالي تراجع الطلب على المنتجات والسلع مما يفاقم من معدلات البطالة في الاقتصاد ومع البطالة تتراجع معدلات مستوى العيش الكريم والحياة اللائقة للمواطن وفي المحصلة يصبح ثراء الطبقه العليا وبالاً عليها وعلى الاقتصاد وعلى المجتمع لأنه حتى إذا افترضنا أنها تستهلك بقدرما تزداد ثراء ، فإن سؤال المقال كم حجم شريحة الطبقة العليا عدداً وطلباً وحاجة للسلع بينما توسيع الطبقة الوسطى يقود للاستدامة وللاستقرار ولارتفاع الطلب على المنتجات ويحقق معادلة اقتصادية يربح فيها الجميع من حيث زيادة الدخول ومن حيث زيادة السعة الإنتاجية والناتج المحلي الإجمالي ولهذا يصح القول بقدرما تتوسع الطبقة الوسطى يستقر الاقتصاد وتتحقق التنمية الاجتماعية والاستدامة. ولهذا أي تركيز على توسيع الطبقة الوسطى فإنه تلقائيا يركز على الاستدامة وعلى توازن النظام الآيكولوجي(البيئي) ليكون داعما للحلول الفعالة والحال كذلك على النظام الرأسمالي السائد أن يخفض من ضرائب الأفراد وزيادتها على الأثرياء وذلك لكبح جماح نقل الثراء من الطبقة الوسطى إلى الطبقة العليا.
أن أوضح مثال للخلل والخطل في افتراضات الشعار الرأسمالي وممارساته وتهافت منطقه، ما حدث في تجارب دول عربية كتونس ومصر وغيرها إذ بتنا اليوم نعرف أن ما حدث فيها كان نتيجة للركض خلف شعارات الخصخصة وافتراضات خلق الوظائف من نمو الشركات الكبرى وظللنا نتابع نشر أرقام النمو في اقتصاديات هذه الدول ولكن في النتيجة كانت أرقاماً باردة دفنت معدل الفقر تحت الشعار الرأسمالي الذي تهمه الأرقام أكثر من ما يجري في الواقع ولهذا استيقظت هذه الدول على هول البؤس وعيش المواطن على هامش الحياة فكان ما كان.
شخصياً أرى الرهان على الحلول المستنبطة من تراث عقيدتنا السمحاء وخاصة فكرة التمويل الاقتصادي الإسلامي وهو مختلف في جوهره عن التورق المستندي القائم حالياً لأنه يقوم على أساس فتاوى شرعية صحيحة ولكن تنقصه المراقبة الشرعية وهذا الغياب يسمح للمصرف ابتداع مشتقات ومنتجات تزعم مطابقة أحكام الشريعة وهي ليست كذلك لأنها تستهدف الأرباح بأعلى من الأرباح الربوية بينما آلية عمل التمويل الإسلامي تستهدف إعمار الأرض ولهذا هناك تماثل بين العمليات المصرفية ذات الشُبهة المحرمة وآليات التمويل الرأسمالي ،الاختلاف في الزخارف اللفظية وهذه لن تعمر الأرض ولن تخلق الوظائف ولذلك ينبغي عدم خلط عمل طيب بآخر سيئ ليصبح اسماً على غير مسمى. وإن كان لذلك نصيب من صحة فإن خلق الوظائف ليس افتراضاً رأسمالياً وليس تقليداً لممارسات رأسمالية وإنما في ممارسة البيع الحلال والتخلي عن الربا الحرام.
المصدر: صحيفة المدينة