يا وزير العمل.. أنصف عمال النظافة
تدني رواتب عمال النظافة، قد يؤدي إلى مشكلات أمنية واجتماعية وسلوكية، وتنامي تحول عمال النظافة إلى التسول، وتجميع النفايات وبيعها، مما يترتب على ذلك قصور واضح في مستوى النظافة
عبدالعزيز قاسم
كم أسعدتني تلك الصورة التي وصلتني على جوالي، لأحد منسوبي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يناول عامل نظافة قنينة ماء باردة، في هاجرة شديدة، وصلت درجة حرارتها في بعض مدن بلادنا إلى الخمسين درجة مئوية.
ملامح الامتنان والسعادة بدت مرتسمة على وجه أخينا العامل، وواضح من سحنته وشيبته أنه فوق الخمسين من عمره، وهمهمت في نفسي: “ربما ستبقى هذه اللفتة الإنسانية من رجل الهيئة، الذي ترجل متواضعا ليناوله الماء، من أروع ذكرياته عن بلادنا، وقد عكس أخونا بمبادرته تلك أصالة هذا المجتمع الحقيقية، وليتهم يكثرون من هذه اللفتات الإنسانية، وإبراز الصورة المضيئة لرجل الشريعة وتسامحه”.
سطور هذه المقالة، سأخصصها للحديث عن هذه الفئة الكريمة التي تعيش معنا، وتقوم بخدمتنا في مهنة قاسية، جعلت المجتمع لا يقدّر ما يقومون به، فيما تكتهن نظرة البعض لهم بالدونية للأسف الشديد، رغم أنهم يقدمون عملا جليلا لنا، تكتنفه كثير من المخاطر الصحية، وهم معرضون يوميا للأوبئة والأمراض، وسبق أن أضربوا قبل ثلاثة أعوام لبضعة أيام في مكة المكرمة، لتنقلب المدينة رأسا على عقب، وتبدو شوارعها كمجمع نفايات كبير، وضاق الناس وضجوا حينها، ولم يحتملوا الوضع المؤذي للنفس وللفطرة، وتكاثر الذباب وتوالدت الحشرات، وكانت المدينة على شفير تفشي أوبئة في تلك الفترة، لو استمر هؤلاء في إضرابهم.
وقتما فتشنا عن الأسباب التي دعتهم للإضراب حينها؛ ألفينا الشركات التي تجلبهم، تمارس معهم الظلم الشنيع، فمرتباتهم تتراوح بين 250 إلى 650 ريالا شهريا!.. أبالله عليكم، هل تكفي هذه المرتبات لأن يوفروا شيئا لمدخراتهم الحياتية، أو يعيلوا بها أهاليهم وذراريهم هناك في بلادهم، أو حتى يتمتعوا بالأدنى اليسير جدا من الترفيه عن أنفسهم، ولا يجابهني أحد ويرد علي بأنهم يعملون في الفترة المسائية، فهؤلاء بشر لهم حقوق، وعمال فرض لهم القانون الدولي راحة، وليسوا آلات ليعملوا آناء الليل وأطراف النهار، دون أية رحمة منا أو شفقة.
لدينا حيالهم جانبان: الأول منهما، تحسين أحوالهم، والآخر، في تغيير نظرتنا لهم، وها أنا أتوجه إلى معالي وزير العمل المهندس عادل فقيه؛ أن ضع بصمتك الإنسانية في وزارة العمل قبل أن تغادرها، ولتكسب دعوات مئات الألوف من إخوتنا هؤلاء، الذين أجبرتهم لقمة العيش أن يتغربوا عن أوطانهم وأولادهم، فلا نزيد الأمر عليهم سوءا، ولتقم بدراسة موضوع زيادة مرتبات هؤلاء العمال، قياسا للعمل الشاق الذي يقومون به، في ذلك القيظ الشديد أو أيام القرّ الباردة، ولترتفع إلى ألف ريال على الأقل، ومتابعة حقوق هؤلاء العمال لدى أرباب الشركات، الذين لا يتقي معظمهم الله تعالى في هؤلاء الضعفاء.
أنت ابن مكة التي انطلقت منها الرحمة والإنسانية لكل العالم، ولعل دعوة من أحدهم، هي من تثقل ميزانك يوم أن تلقى ربك.
الغلاء ضرب بأطنابه في المجتمع، وقارنوا ما يأخذه عمال النظافة في البلاد المتقدمة، إذ تصل مرتباتهم في اليابان لما يتراوح بين 750 ألف دولار إلى مئة ألف سنويا، فيما أظهر تقرير نشرته
الـ”هفنغتون بوست”، أن متوسط ما يتقاضاه من يعمل في وظيفة “جامع القمامة” في أميركا يبلغ 60 ألف دولار سنويا، ويرجع التقرير سبب المرتب العالي إلى عدم شعبية هذه الوظيفة، وهو ما يتطلب رواتب عالية لجذب موظفين لهذه المهنة، بمعنى أن عامل النظافة لديهم يتقاضى خمسة آلاف دولار شهريا، بما يعادل “ثمانية عشرة ألفا وسبعمئة وخمسين” ريالا سعوديا بالتمام والكمال.
أناشد هنا سمو وزير التربية والتعليم الأمير خالد الفيصل، بالتوجيه في تغيير نظرتنا المجتمعية لهؤلاء العمال، عبر غرس قيم النظافة في أبنائنا عمليا لا نظريا فقط، ووجوب مشاركة أبنائنا لهؤلاء العمال في تنظيف الأحياء والمدارس، واعتبار هذا العمل مقدسا لا دونيا، وتنظيم رحلات طلابية لتقديم الهدايا لهم من قبل فلذات الأكباد، الذين سيتسابقون عندما يرون معلميهم القدوات، يقدمون امتنان المجتمع لهؤلاء العمال. غرس ثقافة النظافة هي ما نحتاج إليه كمجتمع، والبوابة هي المدرسة.
ما زلت أتذكر في زيارتي لطوكيو قبل أشهر، وصية شقيقتي الكبرى التي تعيش هناك، وأنا للتو حططت رحلي؛ بعدم إلقاء أية أوراق على الأرض، فهذه خطيئة كبرى في ثقافة القوم هناك، والنظافة عندهم شيء مقدس، فكنا إن انتهت ابنتي الصغرى من أي منديل أو بقايا حلوى، أضطر إلى لفها ووضعها في جيب بنطالى، حتى أجد حاوية نفايات وأفرغ ما بجيبي الذي امتلأ من تلكم البقايا، فلا غرو أن مدن اليابان من أنظف مدن العالم أجمع؛ لأنها ثقافة أصيلة لديهم.
جمعية حقوق الإنسان بالسعودية، وعلى لسان رئيسها في مكة المكرمة سليمان الزايدي، استنكرت أن رواتب هؤلاء العمال تبدأ من 250 ريالا، وأشارت في بيانها قبل عامين، إلى أن تدني الرواتب؛ قد يؤدي إلى مشكلات أمنية واجتماعية وسلوكية، وتنامي تحول عمال النظافة إلى التسول، وتجميع النفايات وبيعها، مما يترتب على ذلك قصور واضح في مستوى النظافة، وذكرت أن تدني الرواتب جعل مهاجع العمال مكتظة وعديمة التهوية، وبيئة مناسبة لانتشار الأمراض والجريمة.
وقال الزايدي إن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، أوصت برفع رواتب العمال بما يتناسب مع المستوى الاقتصادي للعيش في المنطقة، وبما يقضي على ظاهرة هروبهم من مواقع العمل للتسول أو العمل عند الغير.
مايزال المجتمع يذكر لسليمان الزايدي موقفه من مدارس إخوتنا البرماوية، وهو على رأس إدارة التعليم في مكة المكرمة، ولعله يضيف وساما آخر، بمتابعة وتبني قضية عمال النظافة، وهو في سدة جمعية حقوق الإنسان، ويجعلها هدفا رئيسا في عمله، ليضغط وزملاؤه على الجهات المسؤولة لإنصاف هؤلاء العمال.
أيها المجتمع، لنعكس أصالة ديننا وقيمنا التي نحمل في عمال النظافة الذين يحتاجون إلى مشاعر إنسانية رحيمة، قبل أي شيء.. ألسنا وطن الإسلام والإنسانية؟!
المصدر: صحيفة الوطن