هادي اليامي  

زوجاتنا وأبناؤنا أمانة في أعناقنا، استودعها رب العزة فينا تحت إطار القوامة، التي تعني رجحان العقل والسعي إلى إسعاد من حولنا، والقوامة ليست ميزة أو حقا، إنما تكليف علينا أن نؤديه حق أدائه

تمثل ظاهرة العنف الأسري خطرا يهدد البناء السليم للأسرة، التي أرادها الله تعالى نواة للمجتمع السليم، ووضع لها من القوانين ما يكفل استمرارها على أسس صحيحة، إلا أن أحد أطراف هذه العلاقة، الأب أو الأم أو أحد الأبناء قد يجنح في بعض الأحيان إلى اتباع أسلوب القوة، سواء كانت بدنية أو لفظية، لتحقيق أهدافه التي غالبا ما تكون غير شرعية.

ومعلوم أن نظام الأسرة في الإسلام يقوم في الأساس على قاعدة أساسية، هي الإيجاب والقبول، وهذا يعني السير على أساس الاتفاق والتراضي، لذلك منع الشارع الحكيم إرغام أحد الزوجين على الارتباط بالطرف الآخر، ومنحه حق قبول الارتباط أو رفضه، وجعله من أبرز حقوقه الإنسانية، لضمان عدم انحراف العلاقة الزوجية في المستقبل عن الطريق الذي حدده الله سبحانه وتعالى.

ومع أن مصطلح “العنف الأسري” قد يمارس من كلا طرفي العلاقة تجاه الطرف الآخر، إلا أن مجتمعنا -بحسب طبيعته الذكورية- يجعل الزوج هو المبادر في أغلب الأحيان لانتهاج أسلوب العنف تجاه شريكه، أو تجاه أطفاله. لم يكن مجتمعنا المسالم يعرف ظاهرة العنف في الماضي، ولعلَّ إفرازات العولمة والانفتاح الذي يعيشه العالم كله لها دور كبير في تفشي الظاهرة، كما أن تزايد احتياجات الأسرة، بسبب ازدياد معدلات الصرف يرتب على كاهل الآباء مسؤوليات اقتصادية مضاعفة، قد تدفع بعضهم إلى فقدان السيطرة على أعصابه في بعض الأحيان، بسبب تزايد الهموم والمسؤوليات، إلا أن هذا لا يبرر اللجوء إلى العنف.

ومن أكثر ما يحز في النفس، ويثيرها، هو مشاهدة بعض الأطفال الذين يدفعون فاتورة غضب آبائهم أو إخفاقاتهم، فكم من طفل بثت وسائل الإعلام صورته، وسردت قصته، وروت كيف عانى من تعنيف أحد والديه أو كليهما، وكيف أن جسده الغض كان مسرحا لتنفيس همومهم، وتفريغ غضبهم، دون ذنب جناه.

من أسوأ ما ابتليت به الإنسانية في العصور المتأخرة، آفة المخدرات، التي كانت السبب الأساسي في تفشي ظاهرة العنف، فكم من بيت أهمله الأب، وتعثر في الصرف عليه وتوفير احتياجاته، وأهمل مراعاته وترتيب شؤونه، بسبب السير وراء شهوة المتعة الوقتية الزائفة، وتشير إحصاءات وزارة الداخلية إلى أن غالبية حالات الطلاق وحوادث العنف الأسري كان السبب الرئيسي فيها لهث الوالد وراء سراب النشوة الكاذبة التي توفرها له آفة المخدرات. لذلك فإن من الضروري أن نراعي أبناءنا، ونعمل على تحصينهم من الوقوع في شباك تلك العصابات الشيطانية، التي لا تريد لمجتمعنا سوى الهلاك والدمار. وألا نتردد في عرضهم على المستشفيات الخاصة إذا تأكدنا من دخولهم هذا العالم المظلم، وألا ننساق وراء الخوف من تابوهات العيب الاجتماعي، واكتساب السمعة السيئة، فأن نحتفظ بأبنائنا أصحاء أكثر أهمية من أن نخسرهم، بسبب أوهام اجتماعية صنعناها من نسج خيالنا.

ومما يؤسف له أن البعض يحاول تعليق إخفاقاته وميله إلى العنف الأسري على مشجب الشريعة الإسلامية السمحاء، التي ما أتت إلا لتهذيب النفوس، فرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يقول “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فنجد البعض يتحجج بأن ضربه لزوجته ولابنه حق أتاحته له الشريعة الإسلامية، دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في الظروف التي يباح له فيها أن يضرب زوجته، ونوع الضرب، والغاية منه، فالثابت لدى الجمهور أنه ضرب لا يقصد منه الإيذاء البدني، أو إحداث الألم، إنما له بعد رمزي فقط. كما أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يضرب أيا من زوجاته، ولم يعنف إحدى بناته، حتى خادمه لم يعاتبه. وفي ذلك أبلغ رد على من ينظرون إلى أدلة الشريعة من منظورهم الخاص.

زوجاتنا وأبناؤنا أمانة في أعناقنا، استودعها رب العزة فينا تحت إطار القوامة، التي تعني رجحان العقل والسعي إلى إسعاد من حولنا، والقوامة ليست ميزة أو حقا، إنما هي تكليف علينا أن نؤديه حق أدائه.

ومع أن الدولة سنَّت من القوانين ما تحارب به آفة العنف الأسري، ولم تدخر وسعا في سبيل منعها والتصدي لها، إلا أن هناك حاجة ماسة كي يواكب نظامنا القضائي هذه الجهود، فبعض قضاتنا الكرام -للأسف- يتهاونون في اتخاذ الإجراءات اللازم اتخاذها بحق من يتجاوزون صلاحياتهم، بدوافع إنسانية غايتها إيجاد الأعذار لهم، والرغبة في إعادتهم إلى الطريق القويم، إلا أن كثيرا من التجارب أثبتت أن بعض هؤلاء لا يرتدع عن مواصلة نهجه السالب بحق زوجته وأبنائه إذا لم يتم الأخذ على يديه بصرامة وحزم.

ولا ننسى أن النظام الذي يقوم عليه عالم اليوم قد تغير بصورة شبه كاملة، فلم تعد دعاوى الشرعية تكفي مبررا لبعض التصرفات الخاطئة، فمبدأ المشروعية بات غالبا وسائدا، فمهما كانت وصايتنا على الآخرين، فإن ذلك لا يبيح لنا التعامل معهم وفق ما نهوى أو نظن أنه الصواب، فهناك من المرجعيات ما يمكنها وقف تلك التصرفات السالبة.