تحقيق– عافية الفيفي

أصبح العنف الأسري ظاهرة تستحق الرصد والمتابعة، فلا تخلو أحاديث المجالس، وعناوين الصحف، وحتى أروقة المحاكم من حالات العنف التي يروح ضحيتها أفراد الأسرة على اختلاف أعمارهم، وتتعرض بعض الأُسر للعنف من قبل وليهم، وغالبا ما يكون اللجوء لدور الإيواء المختلفة ملاذاً للأسرة أو الفرد المعتدى عليه، في الوقت الذي تشهد كثيرا من الحالات أن يعيش الشخص الذي يمارس العنف حراً طليقا، ويعد الإيواء إجراء أشبه بالعلاج المُسكن لفترة محددة تعود بعدها الأسرة للظلم والجور والعذاب من قِبل هذا الشخص المعتدي، والذي غالبا ما تكون تصرفاته بفعل ترسبات السنين والتي خلقت منه مجرما يشكل خطرا على أسرته وكل المحيطين به أو قد يكون بسبب تعاطي المخدرات بأنواعها .

“الرياض” وقفت خلال زيارتها لدار الحماية الاجتماعية بجازان على أكثر من 27 حالة مُعَنفة من بينها عائلة بأكملها مكونة من 25 فردا ما بين زوجات وأطفال، ذكورا واناثا، صغارا وكبارا يعلو ملامحهم الشحوب والضياع بفعل الألم والعنف الدامي، فقد دفعهم جنون والدهم وعنفه الجائر عليهم إلى اللجوء للدار بعد أن وصل الالم بهم منتهاه وتقطعت بهم السبل وفقدوا ثلاث فتيات بعمر الزهور كان عنف والدهم سببا في فقدهم فأحداهن تبلغ من العمر 13 عام ماتت بالغرق بينما، بينما كان مصير اثنتين من اخواتها التأهيل الشامل بعد أن أصيبتا بالإعاقة نتيجة العنف الذي مارسه والدهم عليهما.

حالات مأساوية

بداية قالت الزوجة الأولى (ع. ع): لقد تزوج زوجي أكثر من امرأة حيث يقوم بتطليق البعض بعد أن يقمن بالهرب من عنفه وتعذيبه لهن، ولم يبق على ذمته الا أنا وواحدة أخرى متواجدة معنا هنا بالدار هي وأطفالها وزوجي يتعاطى بعض أنواع المخدرات، وأنا ومنذ ارتباطي به لم اجد منه إلا العصبية والعنف المميت، فهو يضربنا جميعا من زوجات وبنات وأولاد ويرعبنا بالحرق والخنق، حتى يكاد الواحد منا يفارق الحياة بالإضافة للإهمال والحرمان من أدنى الاحتياجات الضرورية فقد حرمنا من أي اتصال بمن حولنا.

وتضيف إن الفضل بعد الله في نجاتها وأسرتها من عنف وليهم وتسلطه يعود لابنتها الكبيرة، حيث قادها المرض لأحد المستشفيات، ومن هناك أجرت اتصالها بدار الحماية وأبلغتهم بما نعانيه من والدها والحمد لله لم يقصروا، وحضروا فورا لمحافظتنا البعيدة قاطعين المسافات الطويلة والطرق الوعرة واصطحبونا للدار، والحقيقة أننا لم نعد نريد ذلك المنزل والعودة إليه حتى وإن تم القبض على زوجي فقد عانينا بما فيه الكفاية وأصبح بالنسبة لنا كابوسا مرعبا لا نرغب بعيشه مرة أخرى.

وعبرت الابنة الكبرى المعنفة (س. س) والتي تبلغ من العمر 34 سنة عن مدى ألمها فقالت: اشفق كثيرا على والدتي الكبيرة في السن وعلى زوجة والدي المسكينة وعلى نفسي وإخوتي وأخواتي من هذا المصير الذي وصلنا له، فنحن هنا بالدار رغما عنا ولم نكن نتمنى أن يصل بنا الحال الى هنا ولكن الألم بلغ بنا حده ولم نعد نطيق عنف والدي علينا ليل نهار.

وأضافت: “لا أنسى أبدا أخواتي اللاتي أوصلهما عنف والدي إلى مركز التأهيل الشامل بعد إصابتهما بالإعاقة، وأخي الصغير المصاب بمتلازمة داون الذي لن انفصل عنه أبدا ولن اترك أحدا يأخذه لأي جهة خدمية فأنا أحبه وأرعاه، وسبق وقام والدي بمحاولة رميه في أحد الوديان ولكني لحقت به قاطعة المسافات الطويلة وأخذته منه بالقوة وأعدته للبيت وعانيت ما عانيت .

حالات مشابهة

وأكدت خيال عسيري -مديرة دار الحماية الاجتماعية بجازان- وجود حالات مشابهة، وقالت: نقف يوميا على حالات تتنوع ما بين إيذاء جسدي دامٍ قد يؤدي للوفاة أو الإعاقة والاغتصاب، وكلها بسبب وضع بعض الأولياء المتعاطين والمختلين نفسيا والضحية فتيات وأُسر لا ذنب لهم غير أن المجتمع يفرز بعض الآباء والأخوة المعتلين ثم يقف متفرجا على ضحايا تنهشهم أيادي الإجرام، وبينت أن الأسرة التي يستضيفها الدار حاليا والمكونة من 23 فردا تُعد مثالاً للالتزام والانضباط والعطاء، مضيفة: “هم أناس بسيطون ومتعاونون جدا ولا يستحقون من والدهم الا كل التقدير والرعاية والاهتمام، ولكن للأسف ما وجدناه أثناء زيارتنا للأسرة لاصطحابها للدار عكس ذلك تماما فالأسرة تعاني من العنف والعذاب وضنك العيش من وليهم المعنف لهم”.

الدعم مطلب

وأوضحت عائشة فقيه -رئيسة جمعية الملك فهد الخيرية النسائية بجازان والمسؤولة عن الدور والأندية الخيرية بالمنطقة- أن عدد الأسر والفتيات المعنفات في ازدياد، وهذا يدل على أن هناك مشكلة جذرية تنتظر العلاج وتتمثل في إزدياد عدد المدمنين والمرضى النفسيين الذين يمارسون أشد أنواع الحرمان والأذى على أسرهم مما يضطرها للهرب واللجوء لدور الحماية، مؤكدةً على أن دار الحماية الحالي بجازان أصبح غير كاف في ظل ازدياد ضحايا العنف التي يؤويها الدار، وطالبت الشؤون الإجتماعية باعتماد دار إضافية على أن تكون حكومية وبمساحة كبيرة تتسع للنزيلات ومجهزة بكافة التجهيزات اللازمة وتوظيف باحثات إجتماعيات.

وأضافت: “حاليا يوجد اثنتان، وهو عدد غير كاف ونأمل من الوزارة دعمنا بالمزيد للحاجة الملحة لهن حيث تبلغ ميزانية الدار الحالية 700 الف ريال وهي غير كافية فالدار مستأجرة، وعدد ضحايا العنف من الأسر والفتيات في إزدياد وبحاجة للكثير من الاحتياجات على تنوعها”.

من جانبها أكدت عائشة زكري -رئيسة لجنة العلاقات العامة بجمعية الملك فهد الخيرية النسائية بجازان- على ضرورة تطوير آلية العمل بدور الحماية الاجتماعية بحيث لا يقتصر دورها على الرعاية بداخل الدار بل يمتد لحل المشكلة من جذورها وإشراك الجهات المعنية في ذلك.

وقالت: في منطقة جازان على سبيل المثال نحن بحاجة لأكثر من دار حماية وايواء كبقية المناطق، كما أننا بحاجة لاستقطاب كفاءات مؤهلة قادرة على حل المشكلات الأسرية والحيلولة دون تفاقم التفكك الأُسَري مع إعادة تأهيل الأسر والأفراد المتضررين من العنف، وذلك حتى يتمكنوا من تجاوز ما مروا به ويواصلوا حياتهم بشكل سليم غير ملحقين الأذى بأنفسهم أو من حولهم، وذلك ليس خافياً على وزارة الشؤون الاجتماعية فكثير من السلبيات قد ظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي والاهتمام الشخصي لوزير الشؤون الاجتماعية الدكتور ماجد القصبي يبشر الجميع بالخير للوصول بخدمة هذه الفئة إلى أعلى مستويات الجودة .

اضطراب نفسي

وأوضح د. طارق الحبيب -استشاري الطب النفسي- أن إهمال موقف العدوان أو الجريمة سواء كانت اعتداء جسديا أو اغتصابا أو غيره من أنواع الإيذاء يعزز مفهوم القوة غير المستحقة ويؤصل الخوف فى نفسية المعتدى عليه بل ويجعل المجتمع غير آمن وفوضوي فى التعامل مع الأنظمة والضوابط العامة، وقال: إن البعض ممن يمارس العنف وإيذاء الآخرين تحت سيطرة الاضطراب النفسي، وقد يكون العنف سلوكا اندفاعيا نتيجة سوء التحكم في نوبات الغضب، وعدم القدرة على ضبط النفس، إلا أن الحقيقة التي لابد من الوقوف عليها هو أنه ليس كل عنف أو جريمة اغتصاب أو اعتداء خلفها سلوك مرضي نفسي، وليس كل شخص عنيف هو مضطرب أو مريض نفسي، فكثير ممن يمارسون تلك السلوكيات الإجرامية والعدوانية يعانون من سوء فى طباعهم وليس من مرض نفسي ويعتاد البعض العنف كردة فعل مع أهله سواء زوجته أو إخوته وأولاده، كما أن البعض يعكس العنف لديه حالة انفعالية غير سوية تشير الى سوء تقدير العواقب وانخفاض الشعور بالمسؤولية وقد يعكس عند البعض حالة من عدم الشعور بقيمة الذات، ونقص الثقة بالنفس، لافتاً إلى أن بعض البحوث أشارت الى أن الاستعلاء وهو وسيلة دفاعية يستخدمها ضعاف الشخصية لإخفاء النقص لديهم  يكمن خلف العدوان للظهور بمظهر القوة المصطنعة وهذه التفسيرات تدل أن العدوان والسلوك الإجرامي بكل أحواله يستوجب إما العلاج أو التأديب (العقاب) وذلك حسب حالة المعتدي وحسب استبصاره أو إصراره على سلوكياته.

وأكد د. الحبيب على أهمية إعادة تأهيل الأشخاص المُعَنَفين، وقال: إن شعور المعتدى عليه بأنه لايحظى بالحماية الكافية يجعله يشعر بالقلق والخوف ويفقده الشعور بالأمان لذلك كان لزاما على المؤسسات الاجتماعية المختصة توفير الإمكانيات البشرية والعلاجية المناسبة لإعادة تأهيل الشخص المعتدى عليه ليتمكن من مواصلة حياته والعيش بصورة متكيفة فى جميع جوانب حياته.

«حقوق الإنسان» تدعو لنشر ثقافة الحقوق وإجراءات الحماية

بيّن المستشار خالد الفاخري-الأمين العام للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان- أن دور الإيواء والحماية ليست حل للهرب من الواقع.

وقال: لا بد أن يكون هناك شجاعة من قبل المتعرض للعنف والإيذاء بحيث يقوم بمواجهة من يعنفه ويطالب بمحاسبته حتى لا تستمر معاناته، مشيراً إلى أن بقاء الشخص المعتدي طليقاً إجراء مؤقت ولا يعتبر حلاً، والصحيح أن تستمر الضحية في الإجراءات وتقوم برفع دعوى على من قام بتعنيفها وإلحاق الضرر بها والإجراء الصحيح هو بقاء المتعرض للإيذاء في منزله بينما يخرج من قام بتعنيفه عقابا وتأديبا له”.

وأكد الفاخري على أن الشخص الذي يقوم بالاعتداء ليس بمعزل عن المساءلة النظامية فقد يؤدي رفع الدعوى إلى نزع الولاية منه وبالتالي تكون المرأة حمت نفسها وأطفالها من العنف بأنواعه، ولفت إلى المملكة أوجدت أنظمة قوية كفيلة بحماية حق الأنسان من أي تجاوز خاصة النساء والاطفال وبالتالي يبقى الدور الأهم على الفرد، حيث لابد أن يتقدم بالشكوى لجهات الحماية والجهات الأمنية، ولا بد أن يخرج المعنف من إشكالية الخوف من التقدم بشكوى، مبررا ذلك بأنه لا يمكن أن يحدث من الأذى بموجب الشكوى أكثر مما قد حصل سابقا .

ودعا الفاخري إلى ضرورة التبليغ عن حالات العنف، مؤكدا أن نظام الحماية من الإيذاء يتكفل بحماية المُبلغ بحيث لا يفصح عن هويته، وعن إجراءات نظام الحماية الصادر عام 1434ه والشؤون الإجتماعية بحكم أنها الجهة المنفذة للنظام تقوم باتخاذ إجراءات وقائية الهدف منها وقاية المتضرر من استمرار العنف الواقع عليه بحيث تقوم بتوعيته ببعض الأمور التي تسهم في كف العنف عنه، وتأخذ تعهدا خطيا من الفرد المعتدي وتنبهه الى أنه سيقع تحت طائلة المساءلة إن هو استمر في ايقاع العنف على أسرته او أحد أفرادها وفي حين كان العنف شديدا ويشكل خطرا على حياة الفرد فإن نظام الحماية يتدخل فورا لإيواء المتضرر وتوفير الحماية والرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية اللازمة له وبموجب التقارير الطبية يتم تبليغ الإمارة والجهات الامنية وهي بدورها تبدأ بضبط المعتدي ومعاقبته بالسجن بما لا يقل عن شهر ولا يزيد على سنة أو دفع غرامة لا تقل عن (5000) ولا تزيد على (50000) أو كليهما، وفي حالة التكرار تضاعف له العقوبة عن طريق المحكمة ولها إصدار عقوبات بديلة لعقوبات سلب الحرية بما يحقق الهدف ويردع المعتدي.

وشدد الفاخري على ضرورة نشر ثقافة الحقوق والإطلاع وسؤال المختصين في القانون لرفع مستوى وعي المواطن فيما يتعلق بإجراءات الحماية التي قد يجهلها الكثيرون، موضحا أن هناك جهات تُعنى بتثقيف الفرد ابتداء بجمعيات حقوق الانسان وبرنامج الأمان الاسري ومراكز الحماية .

«الشؤون الاجتماعية»: إيواء المعنّف لايكفي دون ردع المعتدي

أوضح محمد المالكي -مدير فرع وزارة الشؤون الاجتماعية في جازان بالإنابة- أنه عند اتصال الأسرة أو الفرد أو ورود بلاغ يطلب حمايتهم، يتم التعامل مع البلاغ فورا حسب خطورته مشيراً إلى أنه في البداية يتم العمل على إيجاد مكان آمن لهم في محيط العائلة وإذا لم يتيسر ذلك يتم الإيواء لدى دار الحماية، مؤكدا على وجود العديد من الصعوبات أثناء مباشرة بعض الحالات، وقد يهاجمنا المعتدي سواء كان مدمنا أو مريضا نفسيا.

وأشار إلى أنه لا شيء يثنيهم عن حماية الضحية سواء كانت أسرة بكاملها أو فردا، لافتاً إلى أن بعض الأسر ترفض الإيواء بالدار وتفضل البقاء عند الأقارب، وهنا يتم اصطحابهم للمكان الذي يرغبون به والتأكد من تحقق الأمن والسلامة لهم بذلك المكان.

وأكد المالكي على أن إيواء الأسرة وحده لا يعد حلا بينما المعتدي يظل طليقا، اذ لا بد من خروجهم في يوم من الأيام ويبقى خطره قائما عليهم بل ربما أخطر من ذي قبل، ولعلاج ذلك أتمنى تعاون كل من الصحة النفسية والمحاكم والشرطة وإدارة مكافحة المخدرات وكافة الجهات واللجان ذات العلاقة، وكل ذلك في سبيل تحقيق الأمن والأمان لأسر المتعاطين والمرضى النفسيين عن طريق القبض عليه والتحقيق معه، وقياس مدى ضرره وتحويله للعلاج مع تطبيق العقوبات عليه ان استدعى الأمر ذلك.

وعن فترة إقامة الأفراد والأُسر بدار الحماية الاجتماعية، قال المالكي: هناك فترة محددة طبق الأنظمة لكننا قد نضطر لتمديد إقامة الأسرة أو أحد أفرادها في حين لا يوجد مأوى آمن يتم الخروج له أو في حال رفض الأقارب استلام الضحية المعنفة، وكثيرا ما تحدث معنا بدار الحماية الاجتماعية.