ساهمت الطبيعة المتلوّنة للعنف اليوم في جعله يتّخذ أشكالًا جديدة ومختلفة عن أيّ وقت مضى، لتعدد العوامل المسببة له من سياسية، وثقافية، واقتصادية، واجتماعية، ونفسية، وأصبحت الحاجة اليوم ماسة للوعي بأشكال العنف الجديدة والمتوقعة، وفهم بنياتها وديناميكيّاتها، والتّوعيّة بخطورتها وكشفها للرّأي العامّ.

وتلعب المتغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والصراعات المحلية داخل المجتمعات دوراً كبيراً في تغير أنماط العنف وأشكاله ونموه بداخلها، مما جعل المهتمين بنظريات العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، والاجتماعية، عاجزين عن الإمساك بديناميكيات وتعقيدات هذه الحروب الجديدة.

وأصبحت العوامل الدافعة للعنف متنوعة ومتداخلة، تبدأ بالنمو في المجتمع المحلي وتغذيها التطورات التكنولوجية والثقافية، مما يسهم في تشكل الهويات الفردية والجماعية، ويصبح الفرد يمعن النظر في ديناميكيات الجماعات الإثنية والطائفية، ويصنّف تلك الأحداث إلى مظالم فردية ومظالم جماعية وغيرها، وتبرز ثقافة أنا فقط أو أنا وأنت، أو نحن وهم، وتتشكل ثقافة الحقوق، والمظالم، والمطالبات، وتمثل عاملاً كبيراً في نمو مفهوم العنف والمساهمة في خروجه من نطاق صورة العنف التقليدية التي كانت تظهر داخل المنزل من خلال الاعتداء على الزوجة أو الأبناء الى أنماط أكثر خطورة وتعقيداً تمارس خارج المنزل في الشوارع، ضد الغرباء والعابرين.

خرج من محيط المنزل إلى الإضرار بالغرباء والممتلكات العامة

آثار سلبية

ويفرز العنف الكثير من الآثار السلبية على أمن المجتمع بدءاً من فقدان الإنسان لنفسه، عندما يكون العنف لدوافع ذاتية، حيث تدفع العوامل النفسية ببعض الأشخاص للانتحار، وربما يلحق الإنسان الضرر بأسرته من خلال العنف ضد الزوجة أو الأبناء، وله آثار على المجتمع حيث يؤدي ضد الأفراد إلى الأضرار بالآخرين، وظهور أنماط إجرامية متنوعة مثل جرائم القتل، وغير ذلك من الجرائم الخطيرة التي تهدد أمن المجتمع واستقراره، لذلك يستدعي تنامي ظاهرة العنف في العالم اليوم التّفكير في أسبابها ونتائجها، لا اعتماداً على تراث من تقاليد سياسيّة ومقولات أخلاقيّة نتّخذها نقاطاً ثابتة نتّكئ عليها، لكن نقوم بافتتاح طرق جديدة في التفكير من شأنه أن ينتج مفاهيم مختلفة تساعد أكثر على الفهم العميق لظاهرة العنف في المجتمع والعمل الجاد على معالجتها والتصدي لجذورها.

صَدْم مركبات أمنية واستخدام أسلحة بيضاء وعصي بين الخصوم

دراسة وتحليل

وباعتبار أن العنف ظاهرة قابلة للانقسام والتعدّد من حيث توصيفاتها وأنماطها، فقد خضعت هذه الظاهرة إلى دراسات وتحليلات عديدة بحسب تعدّد العلوم الاجتماعية والإنسانية، فعلماء النفس حاولوا دراسة هذه الظاهرة من ناحية نفسية، باعتبار أنّ العنف في نظرهم يمثّل سلوكاً عدوانيّاً، له دوافعه النفسية الغريزية أو المكتسبة، الغريزية كالغضب والانفعال، والمكتسبة وهي تلك المؤثرات المتراكمة التي يتعرض إليها الفرد في داخل بيئته الأسرية أو بيئته الاجتماعية، فالإنسان الذي يتعرض إلى العنف باستمرار، أو يعيش في بيئة يمارس فيها العنف، تكون له قابلية أكبر في أن يصدر منه سلوك عنيف، وعلماء الاجتماع حاولوا دراسة هذه الظاهرة من ناحية اجتماعية، باعتبار أنّ العنف يمثّل ظاهرة اجتماعية تأثراً وتأثيراً، وليس مجرد ظاهرة فردية تأثراً من حيث الدواعي والمسببات، وتأثيراً من حيث النتائج والتداعيات، وعلماء السياسة حاولوا دراسة هذه الظاهرة، باعتبارها ظاهرة سياسية، ترتبط بمفهوم السلطة من حيث التأثير عليها، أو من حيث العمل على الوصول إليها، أما علماء القانون، فحاولوا دراسة هذه الظاهرة باعتبارها تتصف بسلوك يتجاوز القانون، ويعتدي على حرمة النظام العام، بالإضافة إلى علماء التربية والأخلاق، الذين حاولوا دراسة هذه الظاهرة باعتبارها تتسبب في إيذاء الآخرين والإضرار بهم، ولأنها تنطلق حسب رؤيتهم من دوافع عدوانية، وتتشكل في سلوك عدواني يتناقض مع قيم التربية في بناء الإنسان الصالح، ومع قيم الأخلاق في تهذيب النفس وإصلاحها.

نمط شائع

ووفق ما توصلت له الدراسات حول موضوع العنف وبأنه ظاهرة قابلة للتغير، يلحظ أن ظاهرة العنف في المجتمع السعودي ومن خلال الوقائع والسجلات التي شهدتها مراكز الضبط الأمني، والمحاكم الشرعية، والمحاكم الأسرية، انحسرت وبشكل مباشر في النمط الشائع للعنف التقليدي داخل الأسرة بسبب دوافع نفسية أو اجتماعية، أو اقتصادية لا تخرج عن إطار الأسرة فقط كاعتداء الزوج على زوجته بأي شكل من أشكال العنف المعتادة كالضرب وغيره، أو الاعتداء على الأبناء أو الخلافات الأسرية، أو عقوق الوالدين وغير ذلك من أنماط العنف التقليدية، التي كانت تنتهي بالصلح في المحاكم، أو بالتسوية داخل الأسرة، ولم يتطور العنف إلى المنحنيات الخطيرة كالعنف المرتبط بالعوامل السياسية المتعلقة بتعرض أفراد المجتمع للقمع والتعسف من قبل السلطة أو المسؤول، فضلَّ سلوك العنف إلى حد قريب داخل المنزل، ولم يخرج للشارع بل استمر مرتبطاً بدوافعه النفسية الغريزية أو المكتسبة، الغريزية كالغضب والانفعال، والمكتسبة التي يتعرض إليها الفرد في داخل بيئته الأسرية أو بيئته الاجتماعية.

تسجيل حالات

ولم يسجل المهتمون بدراسة العوامل السياسة الدافعة للعنف في المملكة أي مؤشر، باعتبار أن العنف ظاهرة سياسية، ترتبط بمفهوم السلطة من حيث التأثير عليها، أو من حيث العمل على الوصول إليها، أمّا المهتمون بالقانون ممثلاً بالجهات الأمنية والضبط وعلماء القانون، فبدأت تشغلهم مشكلة تسجيل حالات فردية في وقائع جنائية -حالات عنف ضد الغير- خارج نطاق المنزل المشار إليه سابقاً، حيث شهدت عدد مناطق ومحافظات المملكة خلال هذا العام والأعوام الماضية تسجيل حالات كالمشاجرات في الشوارع العامة، انتهى البعض منها إلى جرائم قتل أو إلى إصابات طفيفة، كما سجلت الجهات الأمنية والضبطية ورصد النيابة العامة حالات تورط مشاجرات جماعية لبعض الوافدين من جنسيات مختلفة، كما تم تسجيل عدد من المشاجرات في الأسواق العامة، وأمام المدارس، وسجّلت حالات أخرى وهي نادرة لصور عنف كتعمد بعض الأفراد لدهس آخرين بمركبات، أو تعمد أحد الأشخاص لصدم المركبات الأمنية، وقد اتخذت الجهات الأمنية والضبطية إجراءاتها الأمنية لهذه الحالات في حينها باعتبار هذه الحوادث تتصف بسلوك يتجاوز القانون، ويعتدي على حرمة النظام العام، أمّا علماء التربية فأرجعوا تلك الحوادث العابرة إلى ضعف في التربية والأخلاق، وطالبوا بإيجاد الحلول العاجلة للمسببات المؤدية لهذا الخلل باعتبار أن هذه الظاهرة -عنف الشارع- مسببة في إيذاء الآخرين والإضرار بهم، ولأنها تنطلق حسب رؤيتهم من دوافع عدوانية، وتتشكل في سلوك عدواني يتناقض مع قيم التربية في بناء الإنسان الصالح، ومع قيم الأخلاق في تهذيب النفس وإصلاحها، لهذا ينبغي الاستفادة من خبرات هذه العلوم ومعارفها ومنهجيتها في طريقة النظر لهذه الظاهرة، وأساليب التعامل معها، وفي فهمها وتوصيفها وتفسيرها.

ظاهرة مركبة

ويرى المتخصصون في علاج الظواهر الاجتماعية المفرزة للجريمة أن ظاهرة العنف ظاهرة مركبة من عدة عناصر أبرزها ما هو مرتبط بعالم الأفكار، وهو العنصر الخفي لكنه الأكثر جوهرية في معرفة المنطق الداخلي لظاهرة العنف، حيث أن الأفكار هي التي تقوم بدور تشكيل المسوغات، وبناء القناعات، وإضفاء الشرعية على هذا النمط من السلوك الإجرامي وبأنه حق شرعي ومكتسب للشخص، حيث يعتبر سلوك العنف من خلال هذا العنصر ظاهرة فكرية، تعبّر عن نفسها في نشاط سلوكي، يتصف باستخدام وسائل القوة، وهذه القوة تصبح المظهر الخارجي، في حين تصبح الأفكار هي المعبرة عن المظهر الداخلي لهذه الظاهرة، أمّا العنصر الثاني ويتصل بالبيئة الاجتماعية التي يتولد فيها العنف، والبيئة الاجتماعية بحسب طبيعتها وملامحها ومكوناتها، هي التي تساهم في توليد البواعث والمحرضات الحسية، وخلق الانطباعات والصور الذهنية المحركة لهذا السلوك، أمّا العنصر الثالث وفق ما يراه المتخصصون في علم الاجتماع والجريمة هو ما يتصل بالنشاط السلوكي للعنف، ولا يمكن أن نفهم ظاهرة العنف بدون النظر إلى هذه العناصر بصورة مركبة ومتصلة فيما بينها، أمّا النظر إليها بصورة أحادية ومفكّكة، فإنّه لا يساعد على تكوين فهم ناضج وعميق لهذه الظاهرة، والأفكار لوحدها لا تكون مؤثرة، ولا تتحول إلى ظاهرة سلوكية إذا لم تجد ما يبرر لها، ويحفز عليها من داخل البيئة الاجتماعية، وبمعنى آخر أنّ الأفكار لا تكتسب قوة التأثير إلاّ إذا اتصلت بسياق تتفاعل معه، وبدون هذا السياق لا تتحول الأفكار غالباً من عالم النظرية إلى عالم السلوك، أو من عالم القوة إلى عالم الفعل بحسب اصطلاح أهل المنطق، والبيئة الاجتماعية هي التي تشكل السياق الذي يحرّض تلك الأفكار لأن تتحوّل إلى نشاط سلوكي، وإلى ظاهرة تنزع نحو العنف واستعمال وسائل القوة، لأنّ العنف ظاهرة ليست طبيعية مؤتلفة أو حتى مقبولة، لهذا فهي بحاجة إلى ما يبرز لها، ويحرّض عليها، ويكسبها قدراً من المشروعية، ولا يتحقق ذلك إلاّ بواسطة مجموعة من الأفكار، إلى جانب ما يصدّق هذه الأفكار من البيئة الاجتماعية، على صورة وقائع وظواهر تتصف بالانتقائية والتوظيفية، وتفسر بحسب تلك الأفكار وطبيعة منطقها الداخلي، الذي لديه الاستعداد لتقبل هذا النوع من النشاط والتبرير له.

ثلاث نظريات

وكما أشرنا لخطورة العنف بعد خروجه من نمط العنف المنزلي إلى نمط عنف الشوارع، وبالكشف عن عناصره نستشهد بما توصل إليه المتخصصون في علاج الظواهر الاجتماعية المفرزة للجريمة والتي يرجعون فيها منشأ العنف إلى أن ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوين الاجتماعي الذي يتصل بجانب السن، وحسب هذه النظرية إنّ العنف يظهر عند الجماعات التي يغلب عليها أو على زعامتها الجيل الشاب، ويستدل على ذلك بأدلة حسية وموضوعية من الواقع التطبيقي، تفيد بأنّ معظم الجماعات التي سلكت نهج العنف هي جماعات شابة من حيث تكوينها البشري، وهذا يصدق على معظم الجماعات التي ظهرت في العالم العربي، وتعضد هذه الأدلة بتحليلات تفيد أن بعض الجماعات تجاوزت وتخلّت عن مسلك العنف حينما تجاوزت مرحلة التكوين الشبابي، وذلك باعتبار أن مرحلة الشباب هي المرحلة التي يغلب عليها الحماس والاندفاع، وسرعة الانفعال، وعدم تقدير المواقف والأمور بعقلانية هادئة وبنظر بعيد، أمّا النظرية الثانية؛ فهناك من يرى أنّ ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوينات الاجتماعية التي تتصل بجانب نوعية البيئة، وحسب هذه النظرية فإنّ العنف يظهر غالباً عند الجماعات التي تنتمي إلى بيئات تتصف حياتها العامة بالقسوة والخشونة، كالبيئات التي لها تكوينات صحراوية أو جبلية، وتزداد القناعة بهذا الرأي عند الدارسين إذا صاحب تلك البيئات انخفاض وتراجع في مستويات التمدن العام.

وحسب النظرية الثالثة فإنّ ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوينات الاجتماعية الاقتصادية التي تتصل بالجانب الطبقي، لهذا يظهر العنف غالباً عند الجماعات التي يغلب على تكوينها البشري الانتماء إلى الطبقة الفقيرة والمحرومة أو المتوسطة بصورة عامة، خصوصاً في البيئات التي يحدث فيها اختلالات طبقية حادة، وتتفاوت فيها الفوارق الاجتماعية بصورة كبيرة، هذه هي أبرز النظريات التي تصنّف على العامل الاجتماعي والاقتصادي في تفسير وتحليل ظاهرة العنف، وهي نظريات يمكن تطبيقها والاستفادة منها بطريقة نسبية، في تفسير حوادث عنف الشوارع التي بدأت تظهر في مواقع التواصل الاجتماعي في عدد من المناطق والمحافظات، وتسجلها مراكز الضبط الأمني، وتحقق فيها جهات النيابة العامة.