قيس قاسم

يذهب الذهن حين نسمع تعبير «أخطر المناطق في العالم» الى تلك التي تشهد حروباً وصراعات مسلحة غافلين عن وجود غيرها في عالمنا لا تقل عنها خطورة بل وأشد فتكاً ربما من الحروب نفسها، كما جاء في البرنامج التلفزيوني السويدي «مراسلون» حين راح يرصد أكثر المدن صعوبة للعيش والتي يموت الناس فيها بأعداد تفوق عدد قتلى الصراعات، بفارق أن لا أحد ينتبه اليها. ولهذا يعد البرنامج مدخلاً للإطلاع على حيوات بشر مثلنا يتعرضون الى الموت الدائم بسبب المكان الذي يقيمون فيه الى درجة يطرح فيها السؤال نفسه: لماذا يصر هؤلاء على البقاء هناك؟

في درجـــات حرارة تنخــفض شـــتاءً الى دون العشرين مئوية يعتمد مليون إنسان تقريباً في العاصمة المنغولية أولان باتور في تأمين التدفئة لبيوتهم التقليدية «الخيم المغلقة» على فحم الوقود. ونتيجة لما يخلفه الفحم من غازات سامة ومواد مضرة يصاب ساكنها بأمراض رئوية ويموت منهم يومياً نتيجة تفاقمها العشرات، كما يترك التلوث آثاره على المدينة التي تعد الأسوأ عالمياً من ناحية نسب التلوث إذ تبلغ ثلاثين مرة أكثر من المعدلات العالمية المسموح بها.

في خيمة بسيطة، ملوثة الهواء، يقابل البرنامج امرأة عجوز مصابة بسرطان الرئة ترعى حفيديها وأحدهم مصاب بالتهاب الرئة الحاد، ومن خلال حديثها عن مرضها يتبيَّن لمراسل البرنامج الدور الخطير الذي تلعبه التدفئة السيئة في انتشار الأمراض الرئوية وأن الفقر وضــيق اليد يجبرانها على البقاء في المدينة لانعدام الخيارات الأخرى كالعيش في القرى البعيدة. لهذا تعتبر ما توفره الدولة من أنواع أخرى من الفحم أقل تلوثاً بسعر مؤمن جزئياً، محاولة بســيطة منها لتخفيف المشكلة لا لحلها، وأن مصيرها سيكون مثل مصير بقية أفراد عائلتها: الموت بالسرطان.

تقارير المستشفيات التي زارها البرنامج تؤكد تجاوز معدلات الوفيات المستمرة في البلاد نسب دول أخرى من العالم دخلت حروباً وصراعات مسلحة. وللأسباب ذاتها (الفقر وأنعدام الخيارات وقلة الحلة) لا يجد سكان جزيرة يافا الأندونيسية مفراً من بركان ميرابي الدائم الغضب إلا بالتكيّف مع غضبه. لهذا تراهم ورغم الويلات التي تسببها ثوراته لهم يبقون في قراهم المحيطة به يعيشون أيامهم في انتظار المعجزات التي قد تساعدهم في النجاة من سيوله الملتهبة التي تأكل الأخضر واليابس وتقتل الآلاف في كل مرة يثور فيها كما قالت الشابة سوارني التي بقيت وحيدة على قيد الحياة بعدما طمرت سيول البركان بيتهم وقضت على كل عائلتها. «عليًّ التكيّف مع الحياة فلا مكان لي أذهب اليه سوى هذه القرية التي ولدت فيها كما أن الفقر يجبرني على البقاء مع الآخرين، فلا مفر لنا إلا مجاورة البركان».

قبل ثلاث سنوات خلف البركان بعد انفجاره أعداداً كبيرة من القتلى وهجّر قرابة نصف مليون انسان بعضهم عاد ثانية الى قريته لأسباب منها: قلة فرص العمل في القرى والمدن المجاورة كما أن سيول البراكين المعدنية تزيد من خصوبة التربة، بعد مدة من الزمن، وبالتالي تساعد الفلاح على الزراعة وتأمين أعلاف الحيوانات التي يعتاش على حليبها ولحومها.

في مقابلات مع سكان جبل «ميرابي» اتضح أن أجيالاً بأكملها قد انتهت نتيجة للنشاط البركاني المدمر وأن صحة الكثير منهم قد ساءت بسبب الغازات السامة المرتفعة منه وارتفعت نتيجتها أيضاً نسبة الوفيات بينهم، فغدت منطقتهم واحدة من أكثر مناطق العالم خطورة.

مدينة سان بيدرو سولا الهندوراسية عُدت من بين أخطر مدن العالم لكثرة الجرائم المرتكبة فيها ولنشاط العصابات المنـــظمة وتـــجار المخدرات وأضحت ظروف معيشة الناس فيها سيــئة ولـــكن بســـبب الفــقر والعوز، أيضاً، يضــــطر سكانها للبقاء فيها وسط هواجس الخوف والرعب التي تظــهر جلية ما أن يبتعد المرء عن وسط الـــمدينة بمسافة قصيرة، كما جرّب مراسل البرنامج بنفسه حين اقترب برفقة صحافي محلي من حي يشهد موت خمسة أشخاص كل يوم تقريباً.

وصف، كلاوديو أسكالون الذي يعمل في محطة تلفزيونية محلية الحي بأنه ساحة قتال مفتوحة بين تجار المخدرات الذين ازداد نفوذهم خلال العقدين الأخيرين بشكل لافت، كما أن الفقر والبطالة شجع كثراً للعمل معهم أو أن يطلبوا حمايتهم، ما مثّل تحولاً اجتماعياً درامياً، تلعب فيه العصابات المنظمة وتجار المخدرات دور الحامي بدلاً من الدولة وشرطتها، التي ينخرها الفساد، وبالتالي لم يعد أمام الناس سوى التكيف معهم من أجل الحفاظ على أرواحهم.

يأخذ الصحافي، المراسل السويدي، الى إحدى مستشفيات المدينة ليرى بأم عينيه المصابين والقتلى خلال يوم واحد، بعدها يصطحبه الى متجر «حانوتي» يقدم خدمات الدفن السريعة من دون توقف ما اعتبره أحد المؤرخين المحليين رمزاً لمهــــزلة تاريخية حوّلت إحدى أهم المدن في أميركا الوسطى، والتي أطلق عليها يوماً ما جمهورية الموز، الى جمهورية الموت الذي وضعها اليوم بين أخطر مدن العالم على الإطلاق!

المصدر: صحيفة الحياة