د. عبدالله القفاري

قالت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في بيان لها، نشرته صحيفة الرياض يوم الاثنين الماضي: “إن وزارة التربية والتعليم تعاقدت على إنشاء مدرسة ابتدائية بالقصبة التابعة لمحافظة ينبع مع إحدى المؤسسات الوطنية، وانتهت مدة المشروع بتاريخ 20/4/1428ه، في حين كانت نسبة الإنجاز لا تتجاوز 45%، وقت زيارة الهيئة، وقد لاحظت الهيئة ضعفاً بأداء جهاز الإشراف على المشروع، إذ لا توجد تقارير إشراف دورية للمشروع، وأن أول إنذار وجه للمقاول كان بعد نهاية مدة المشروع بأكثر من أربعة أشهر، كما تبين للهيئة تأخر الجهة المسؤولة بالوزارة باتخاذ الإجراءات النظامية في وقتها… إذ لم يصدر قرار سحب المشروع إلا بتاريخ 24/6/1430ه، أي بعد مضي سنتين وشهرين من انتهاء مدة المشروع، ولم يرسّ المشروع على المقاول الثاني إلا بتاريخ 20/9/1432ه.. ولم يسلم الموقع للمقاول الثاني إلا بعد مرور 8 أشهر من تاريخ الترسية. كما لاحظت الهيئة عدم وجود أعمال جارية بالمشروع بعد إعادة ترسيته مرة أخرى، ولا عمالة بالموقع، ولا يوجد حارس للمشروع، ولم يتم تركيب لوحة معلومات عن المشروع..”

وفي يوم الأربعاء جاء في صحيفة الحياة:

أكد مصدر رسمي بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة»، وجود تشققات وتصدعات في مبنى مدرسة شعر الابتدائية للبنات بمحافظة تربة في منطقة مكة المكرمة، وقال المصدر: “إن الهيئة تابعت ما نشر في إحدى الصحف المحلية، حول وجود تشققات وتصدعات بمبنى مدرسة شعر الابتدائية للبنات.

وأفاد بأن المشروع تم استلامه متأخراً عن موعده ب12 شهراً، كما لوحظ هبوط في أرضيات بعض الفصول وتكسر بلاط «سراميك» الأرضيات، وأن أعمال «الطرطشة» تحت «اللياسة» كانت خفيفة، ولم تنفذ بالشكل المطلوب، ما أدى إلى تصدع وتساقط أجزاء من اللياسة، وعدم تنظيف بعض الأعمدة، والكمرات من الأخشاب قبل «اللياسة». مشيراً إلى أن تنفيذ «اللياسة» تم على بعض قطع الخشب فقط، وعدم ربط البلوك أثناء البناء بشكل جيد..”

وفي كلتا الحالتين خاطبت الهيئة وزارة التربية والتعليم للإفادة..

هذه الاخبار او البيانات التي تنشرها الهيئة سنرى منها الكثير.. وهي توحي بغرق الهيئة في المشروعات الصغيرة المتعثرة والمشتتة، ما قد يؤثر في وظيفتها في مواجهة قضايا أكبر وأكثر أهمية.. وحتى لو افترضنا ان الهيئة لديها كل الامكانات للإحاطة بأوجه الفساد وملاحقتها مهما بدت صغيرة فما هي حدود هذه المتابعة اذا اكتفت بطلب الافادة..؟!

ليس هذا انتقاصاً من أهمية وقيمة هذين المشروعين مهما كانا صغيرين.. وسنجد مثلهما الكثير ولكن هو تأكيد على قصور محاسبي تمثل في هذه المركزية البعيدة التي تستدعي أن ترسل هيئة مكافحة الفساد موظفيها للبحث عن الحارس ولوحة المشروع وتغرق في تفاصيل تتعلق بمشكلات اللياسة والتشققات وعثرات مشروع تتكرر في اماكن كثيرة..

لست من هواة تصيد المحليات للتعليق عليها، ولكن هذا الخبر يعني أن هناك غيابا حقيقيا مؤثرا لقوى المحاسبة والمراقبة في المناطق والاطراف والقرى البعيدة او القريبة.

المملكة قارة، تركيز صلاحيات الرقابة والكشف والمتابعة بمراكز كبرى كالهيئة إعاقة لنمو فكر وسلوك الرقابة والمحاسبة داخل تلك المناطق ناهيك عن غياب فكرة التخلص من المركزية في المشروعات الصغيرة لتصبح تلك المناطق قادرة على الحراك نحو بناء منظومة تؤكد استحقاقها وقدرتها على تنفيذ وادارة ومراقبة مشروعاتها.

ألم يحن الوقت لتفعيل مجالس المناطق وزيادة صلاحيات المجالس البلدية لتطال اطرافا بعيدة ومراكز نائية ومناطق بحاجة ماسة للتنمية؟

ألم يحن الوقت لإعطاء المناطق الفرصة لتوجيه ميزانيات مشروعاتها وفق ما يخدم مصالح تلك المناطق، وأن تمنح المجالس البلدية صلاحيات الرقابة والكشف والمساءلة عبر آلية تضمن وصول قضايا الفساد للقضاء؟

ألم يحن الوقت ليصبح كل مجلس بلدي هو من يخطط لاحتياجاته ومشروعاته التي تطال التعليم والصحة والطرق والخدمات البلدية والاسكان ويناقشها كل عام مع المسؤولين في الوزارات والقطاعات الكبيرة.. وأن تصبح هناك ميزانيات تقدم كحزمة متكاملة لكل منطقة توزع حسب احتياجاتها لتعمل على تنفيذ مشروعاتها بنفسها، وان تكون الرقابة والمساءلة بالدرجة الأولى من صلاحيات المجلس البلدي المنتخب من المواطنين، وأن يكون دور الجهات العليا مراقبة مسارات عملية تنموية وتقويم التجربة ومعالجة الثغرات والخلل الذي يمكن ان ينجم عنه بعض اوجه القصور في التطبيق.

المركزية الادارية في تنفيذ المشروعات وتوزيعها والرقابة على تنفيذها فكرة يكاد العالم يتخلص من آثارها المعطلة. توزيع المسؤوليات والصلاحيات في كيان كبير بحجم المملكة يخفف الضغط عن المركز ويجعل المنافسة على أشدها بين المناطق في تنمية مدنها وقراها.. ويرسخ ثقافة المشاركة من المواطنين في تلك المناطق في متابعتهم القريبة لمشروعات مناطقهم ويجعل جزءا كبيرا من التفاعل في تلك المناطق دافعا للابداع في التعاطي مع مشكلاتهم ومعالجتها.. وتوجيه الخدمات بشكل مناسب وعادل، ويمّكن تلك المناطق من التحكم في ميزانيات قد تصنع منها ما هو أفضل بكثير من ادارة مركز غارق في بيروقراطتيه ومحدودية رقابته وبطء انجازه.. حتى ليستدعي الامر تدخل هيئة مكافحة الفساد التي يجب ان تكون مهامها واضحة ومحددة وتمثل الاطار الاعلى في الرقابة والمساءلة.

مناطق المملكة الثلاث عشرة تتفاوت في عدد سكانها واحتياجاتها ومدى تنميتها خلال العقود الماضية. تخصيص ميزانيات للمناطق وفق عدد السكان ومستوى الاحتياجات وفي قضايا تتعلق بالصحة والتعليم والطرق والاسكان والخدمات البلدية لتتعامل معها أجهزة تنفيذية داخل تلك المناطق تحت رقابة مجالس بلدية منتخبة بالكامل وفي ظل اجهزة اخرى تشارك في الرقابة وتقويم مستوى الانجاز ومراجعة العقود يمكن ان يصنع تجربة تثري هذه المناطق، ويحقق تنافسية منتجة، ويشكل تجارب ربما تحتذى من مناطق اخرى..

أما إن بقيت تلك المشروعات رهن تخطيط المركز ورقابته وسط هذا التعثر وتنامي احتياجات وتراكم متطلبات وانتظار لسنوات فهي ستؤدي الى مزيد من اعاقات التنفيذ والشاهد الملموس ما تؤكده المعلومات حول حجم تعثر المشروعات وتأخر تنفيذها وتشغيلها.

وحتى لا تغرق وتتبعثر جهود هيئة مكافحة الفساد في مشكلات تنفيذ مدرسة ابتدائية متعثرة في قصبة ينبع ومتابعة دقة تنفيذ اللياسة والارضيات في مدرسة شعر.. لتقف الهيئة عند ادوار أكبر واخطر في مواجهة مستويات من الفساد. كما لن يعفي الهيئة من مسؤولياتها الكبرى إصدار بيانات من هذا النوع طالما لم تكن حلقات المساءلة والمحاسبة واضحة ولا تكتفي بطلب الافادة من الجهات المسؤولة.. بل يجب أن تملك من الصلاحيات ما يخولها التحقيق وأن تملك الادوات الكافية لتصل تلك القضايا الى أورقة القضاء والمحاكم في حالات الفساد.

التحرر من مركزية التخطيط والتنفيذ والرقابة لإعطاء المناطق سلطة واسعة في تنفيذ ورقابة مشروعاتها مسألة تستحق التداول والبحث للوصول الى افضل المسارات التنموية.

لن نخترع العجلة من جديد فهناك نماذج تنموية ناجحة في كثير من بلدان العالم يمكن استلهام تجربتها والاستفادة من تطبيقاتها في هذا الشأن وغيره.

المصدر:صحيفة الرياض