عبدالرحمن الخطيب 

اعتاد معظم الأثرياء في السعودية توزيع زكاة أموالهم وصدقاتهم في الثلث الأخير من شهر رمضان، بغية نيل الثواب والأجر المضاعف، إذ يلاحظ في بعض شوارع مدنها الكبيرة اصطفاف الكثير من الفقراء من جنسيات مختلفة على أبواب قصور بعض الأثرياء، ينتظرون ما يجود به عليهم هؤلاء المحسنون. هذه العادة أو الفضيلة أو السنّة مستحبة لا خلاف، ويشكر عليها فاعلوها.

ولكن أجد أنه من الأصلح والأمثل التوقف عند بعض الملاحظات، مثل أن بعضهم يتصدق بمبلغ صغير من المال لأجل أن يقال: هذا قصر المحسن فلان. وبخاصة إذا علمنا أن عدد الفقراء على باب قصره لا يتجاوز 50 فقيراً، والأظرف التي توزع عليهم في يوم محدد من شهر رمضان لا تحوي إلا مبلغ 100 ريال فقط. بينما في المقابل هناك الكثير ممن ليسوا من الأثرياء يتصدقون في شهر رمضان بمبالغ تفوق 10 آلاف ريال، من دون أن يعلم أحد عنهم شيئاً.

الأمر الآخر أن معظم من يتصدق في رمضان لا يتصدق إلا على من يقصدهم أو يطرق بابهم، مع علمهم المسبق بقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا). أي من الأصوب لمن يتحرى التقرب إلى الله السؤال عن أصحاب الحاجات بنفسه ليتصدق عليهم.

هناك أمر في الحقيقة يجب لفت النظر إليه أيضاً، وهو «الحض على طعام المسكين». فقد كرره تعالى ثلاث مرات في كتابه الكريم، لعظمه ورفعة قدره وثوابه. مثل آية (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، فعطف (ولا يحض) على (لا يؤمن) داخل في العلة، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين، إذ جُعل قرين الكفر، وهذا حكم ترك الحض، فكيف يكون ترك الإطعام؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين. ثم الأغرب من ذلك كله أن بعض الجمعيات الخيرية تشترط لصرف تبرعاتها شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان، منها: أن يكون طالب المساعدة غير حليق اللحية، وأن يحفظ جزءاً من القرآن الكريم، وأن يكون مواظباً على صلاة الجماعة في المسجد بشهادة إمام المسجد.

يظن بعض المتبرعين أن في شروطهم المجحفة هذه أنهم أحسنوا عملاً، وأنهم اتبعوا دين الله في توزيع صدقاتهم. وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على جهل بالأحكام الشرعية في هذا الموضوع، لأن مثل هذه الاشتراطات لم ترد بالأحكام الشرعية لمصارف الزكاة، لا من قريب ولا من بعيد، ناهيك عن صدقة التطوع. كما أن مثل هذه الاشتراطات تُعلِّم أصحاب الحاجات الكذب والنفاق ليصلوا إلى مبتغاهم، من دون أن يكون في استيفاء تلك الشروط عليهم، أي وجه من وجوه ابتغاء مرضاة الله تعالى.

إن صدقة التطوع قد حدد الإسلام مصارفها، ولم يشترط لها شروطاً كتلك التي تشترطها هذه الجمعيات الخيرية. كما حدد الشرع أولويات لمن تصرف لهم هذه الصدقات، منهم: الأقارب ثم الجيران، لقوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة). ولقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: «زوجك أحق ممن تصدقت عليهم». بل يستحب أن يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم عداوة ليتألف قلبه، ويرده إلى المحبة والألفة. ثم يستحب لصاحب الحاجة، لقوله عز وجل: (أو مسكيناً ذا متربة). ثم تجوز على الغني، والكافر، والفاسق. فقد صنف الشيخان في صحيحهما باباً يسمى «باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين ولو كانوا مشركين».

في الصحيحين ‏عن‏ ‏أبي هريرة، ‏عن النبي، صلى الله عليه وسلم،‏ ‏قال: «‏‏قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية. قال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني. قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق. فأُتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت. أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها. ولعل الغني يعتبر، فينفق مما أعطاه الله. ولعل السارق يستعف بها عن سرقته».

إن من يشترط مثل تلك الشروط في توزيع صدقاته يجب أن يعلم أن صدقته يجب أن تكون مقرونة بطيب نفس ‏وبشر، من دون السؤال عمن تصل إليه هذه الصدقة، كي ينال الأجر في جبر القلوب، فالمن بالصدقة يحبطها، أي يمنع ثوابها، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى). فحين يتبرع المسلم أو يتصدق يتوجب عليه أن يبتغي بذلك وجه الله تعالى فقط، لا بقصد حب الظهور بمظهر الملتزم المتدين الذي يتحرى الشرع حتى في صدقته.

إن أفضل الصدقات صدقة السر لقوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم). وفي الحديث الشريف عن ‏أبي هريرة، ‏عن النبي، صلى الله عليه وسلم،‏ ‏قال: «‏‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل… ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه… الحديث».

ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الناس، حين يتعرضون للسؤال من بعض الفقراء والمساكين، نهرهم بحجة أن سيماههم لا يبدو عليها أثر الفقر. وعرّف ابن حزم في «المحلى» الفرق بين الفقير والمسكين بقوله: «الفقراء الذين لا شيء لهم أصلاً، والمساكين هم الذين لهم شيء يقوم بهم، لقوله تعالى: (وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر). فسماهم الله تعالى مساكين ولهم سفينة، ولو كانت تقوم بهم لكانوا أغنياء». فالدين والمذهب والغنى والعرق والصفات الخُلقية والخَلقية بشكل عام ليست شرطاً من شروط مصارف الصدقات.

إن من يقول بمثل تلك الشروط كمن ذكرهم تعالى في كتابه الحكيم بأنهم يمنعون الماعون، والماعون الصدقة. وحذر تعالى من هذا العمل، ووعد من يفعله بالويل، وجعله مثيلاً لمن يسهو عن صلاته في قوله: (ويمنعون الماعون). وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صدق السائل هلك المسؤول». والحقيقة أنه يغم على الكثير من المسلمين الأثرياء التفريق بين الصادق والكاذب من بين هؤلاء المتسولين. والأفضل الأخذ بحسن الظن في أن المتسول لعله صادق، فإذا نهره المسؤول، أدى ذلك إلى إذلال السائل وجرح مشاعره، فيأثم المسؤول نتيجة تصرفه هذا. لذا قال تعالى: (وأما السائل فلا تنهر). وفي الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطوا السائل وإن جاء على فرس». يعني لا تردوه، وإن جاء على حال تدل على غناه كركوب فرس، فإنه لولا حاجته للسؤال ما بذل وجهه.

المصدر: صحيفة الحياة