دروس في التسامح
عبدالله عبدالكريم السعدون - جريدة الرياض
مصلون يرفعون أكفهم بالدعاء داخل المسجد وفي خارجه يمسك الأهالي بأيدي بعضهم حماية للمصلين، صورة مؤثرة تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، لوحة جميلة من الحب والتسامح أظهرت عدداً من الكنديين وقد تشابكوا بالأيدي وأحاطوا بمسجد الجامع في مدينة هالي فاكس لحماية المصلين أثناء أدائهم صلاة الجمعة، ورغم أن درجة الحرارة كانت 15 تحت الصفر إلا أن عدداً من المتطوعين لبوا النداء وخرجوا لحماية المصلين، وبعضهم اصطحب أطفاله ليعطيهم درساً في التسامح وقبول الآخر، وقد كان هذا أفضل رد على الهجوم الإرهابي على مسجد في كيوبك وقتل عدد من المصلين على يد إرهابي متطرف حاقد على الإسلام
والمسلمين. هذه الصورة التي نقلها وعلق عليها أحد المبتعثين في كندا من الواجب أن تكون ضمن مقرر دراسي يدعو للمحبة والتسامح وقبول الآخر، ويجب أن ينقلها منتدى الحوار الوطني ليقول للمشاركين هكذا يجب أن يكون التعايش، وهكذا تتصرف الشعوب المتقدمة التي تنشد العيش بسلام واستقرار وترغب في الاستفادة من كل الطاقات الموجودة في المجتمع، فالشعوب المتقدمة تحتفل بالاختلاف وتعده مصدر قوة بعكس الشعوب التي تعد كل اختلاف تهديداً لوجودها، وكل فئة أو طائفة لا ترى الحق إلا معها. هذا المنظر -وهو حماية المصلين- تكرر في أكثر من مكان رداً على أعمال إرهابية دوافعها عنصرية، فقد حدث ذلك في ألمانيا وفي مسجد الملك فهد في لوس أنجلوس وفي روتردام في هولندا حين شكل الأهالي طوقاً لحماية المصلين.
وكما أن طيبة الإنسان وعطاءه لا حدود لهما، فإنه لا حدود لما يرتكبه من جرائم بحق أخيه الإنسان إما بسبب اختلاف الدين أو المذهب أو العرق أو الجشع والأنانية، والشواهد على ذلك كثيرة أيضا في معظم بلدان العالم، وهي لا تستثني شعبا دون آخر، لكن الفرق يأتي من شيئين مهمين هما ما تشبع به الإنسان من ثقافة في البيت والمدرسة، وما تضعه الدولة من قوانين لترسيخ مبدأ المواطنة والتعايش وتطبيق تلك القوانين بكل حزم وعدالة.
ثورة الاتصالات ربطت العالم ببعض ولم تعد الدول تعيش في جزر معزولة عن بعضها فما يجري في دور العبادة والمدارس والإذاعات المحلية تتناقله وسائل الاتصال الحديثة، وأكثر من يتأثر بالممارسات العنصرية والإرهاب هم الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب أو المسافرين عبر المطارات وما يخضعون له من إجراءات طويلة ومملة بسبب تزايد العمليات الإرهابية على مستوى العالم، ولهذا علينا أن نسهم في بناء الثقة بين المسلمين ومواطني تلك البلدان حتى تعيش الأقليات المسلمة بسلام ويصبحوا مؤثرين فيما حولهم وفاعلين في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والإعلامية كما هو لدى الأقليات اليهودية التي تخلت عن الكثير من الممارسات المتوارثة التي كانت تسبب لها الكره والملاحقة من قبل الشعوب والحكومات التي كانت تعيش بداخلها.
علينا أن نحسن علاقتنا مع الآخر مستفيدين من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، وعلينا أن ننقي التراث ليتواءم مع المستجدات، ونؤسس لعلاقات أفضل مع الآخر بعقل متفتح، وأن نعلم أن من كتب التراث سواء أكان فقيهاً أو مؤرخاً فهو إنسان له قدراته وتأثير بيئته والنظام السياسي السائد في وقته والمجتمع المحيط به واجتهاده بناء على ما يمتلك من معطيات متوفرة في زمانه.
كل عمل إنساني معرض للخطأ، والدليل هو ما يحصل من أخطاء في الوقت الحاضر الذي نعيشه على مختلف الأصعدة وحتى في أدق العمليات كالطب والطيران وحتى في القضاء الذي تكون الدلائل حاضرة أمام القاضي، وهو ما يعني أنه لا غنى عن تحكيم العقل لتصحيح بعض المفاهيم السائدة، وما يزخر به التراث من تفسيرات لم تعد صالحة لهذا الزمان، وأهمية البحث الجاد عما يصلح للمسلم في القرن الواحد والعشرين وخصوصاً علاقته بالآخر المختلف سواء داخل الوطن أو خارجه، وأن يدرس ذلك في المدارس مع جرعات إضافية من التسامح تضاف إلى المناهج حتى ننشئ جيلاً قوياً في فكره وإيمانه بضرورة التعايش والتعاون مع غيره سواء داخل الوطن أو خارجه، جيلاً يقدم الإسلام بالقدوة وحسن التعامل، وليس بالقول فقط.
المصدر : جريدة الرياض - 15-2-2017