أميرة كشغري - جريدة الوطن

عدد القراءات: 3922

عرضت في مقالة الأسبوع الماضي أهمية نشر الثقافة الحقوقية داخل مجتمعنا بشكل عام وداخل مؤسساتنا التعليمية بشكل خاص. وكنت قد أشرت إلى نموذج خلق القيم والوعي باعتباره أحد النماذج البارزة لتعليم حقوق الإنسان حيث يكون محور التركيز الرئيسي فيه هو نشر المعرفة الأساسية بقضايا حقوق الإنسان وتعزيز دمجها بالقيم العامة وذلك من خلال إدراك والتزام الأهداف المعيارية التي يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاق العربي لحقوق الإنسان.

ومن خلال متابعتي لما نشر خلال هذا الأسبوع في المملكة من أخبار وحراك في مجال حقوق الإنسان يتضح أننا نمر في مرحلة واعدة تتميز بازدياد وعي المواطنين لحقوق الإنسان واهتمام المؤسسات التعليمية بها وزيادة واضحة في الاهتمام الرسمي بها. وعلى سبيل المثال لا الحصر كشفت عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الأستاذة نورة الجميح في لقائها مع منسوبات كلية الاقتصاد المنزلي والتربية الفنية في الرياض عن مطالبة الجمعية بإدراج ثقافة حقوق الإنسان في المناهج التعليمية وأنه جارٍ العمل ومخاطبة وزارة التربية والتعليم بهذا الصدد لتتضمن المناهج بعض المفاهيم الأساسية بحقوق الإنسان. وذكرت أن على أجندة الجمعية مطالب حقوقية عديدة خاصة فيما يتعلق بالمرأة ولكنها تحتاج إلى حراك اجتماعي لا يكون إلا من خلال التوعية بتلك الثقافة الحقوقية ونشرها من خلال وسائل الإعلام والناشطين في هذا المجال.

من جانب آخر وفي أول نشاط توعوي للفرع النسائي بهيئة حقوق الإنسان بعد افتتاحه، تحدثت الأستاذة نجلاء الجمعان عن هيئة حقوق الإنسان بالمملكة ومهامها وعرّفت بالفرع النسائي وأقسامه وإداراته التي تنطلق وفق رؤية موحدة في رفع المستوى الحقوقي لدى أفراد المجتمع من النساء والأطفال، متخذة “الكرامة للمرأة والدعم للطفولة” شعاراً لها ومؤكدة على حقوق المرأة والطفل في جوانب ومجالات الحياة المختلفة. كما أقامت هيئة حقوق الإنسان بمنطقة مكة المكرمة قبل يومين فعاليات مصاحبة لليوم العالمي لحقوق الإنسان ومناهضة العنف الأسري. كما تقوم كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز في لقائها الشهري الثالث هذا اليوم الأربعاء باستضافة المشرف على جمعية حقوق الإنسان بمنطقة مكة المكرمة ونائبة الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان لشؤون الأسرة. ويعتبر كل هذا الحراك بداية جيدة ومشجعة لدخول مفهوم حقوق الإنسان في مؤسساتنا التعليمية وجعله ملتصقاً بحياة جيل الشباب الذين يكونون الشريحة الكبرى من المجتمع.

واستطراداً في هذا الموضوع أطرح اليوم النموذجين الثاني والثالث لتعليم حقوق الإنسان بهدف الاستفادة من التجارب العالمية بشكل عملي في نشر وتطبيق هذه الثقافة وتحويلها من مفاهيم ذهنية إلى وعي عميق وممارسة فاعلة. في النموذج الثاني، نموذج “المحاسبة على الأعمال”، ترتبط الهيئة التعليمية (بمن فيها الطلاب) بصورة مباشرة وغير مباشرة بضمان حقوق الإنسان من خلال أدوارهم داخل المدرسة وخارجها، بحيث يكون لهم دور فاعل في المراقبة المباشرة لانتهاكات حقوق الإنسان والسعي لدى السلطات الرسمية من أجل احترامها وبذل الجهود (السلمية) اللازمة لحماية حقوق الناس خاصة تلك الفئات الأكثر تعرضاً لانتهاك حقوقها ممن يتحملون بعض المسؤولية عنهم. وفي هذا النموذج تفترض البرامج التعليمية أن الطلبة المشاركين معنيون مباشرة (ومرة أخرى بالطرق السلمية) بحماية حقوق الأفراد والجماعات. لذا فإن التحدي بالنسبة إلى دعاة حقوق الإنسان والمدافعين عنها يكمن في فهم قانون حقوق الإنسان وآليات حماية هذه الحقوق والمهارات اللازمة للدفاع عنها والعمل في سبيل تعزيزها. أما بالنسبة للمجموعات المهنية الأخرى، فإن البرامج التثقيفية تجعلها أيضاً أكثر إدراكاً لطبيعة انتهاكات حقوق الإنسان وتزيد من حساسيتها تجاه إمكانية حصول مثل هذه الانتهاكات في دورها المهني، لا لمجرّد منع وقوع تلك الانتهاكات وحسب بل أيضاً لتعزيز احترام كرامة الإنسان. وعبر طرح مواضيع حقوق الإنسان في هذه المجالات المتخصصة وعبر التدريب المستمر على احترام حقوق الإنسان (والذي يستهدف المضمون وتطوير المهارات) يتم إرساء أعراف وممارسات تتعلق بحقوق الإنسان تكون مستندة إلى هيكليات راسخة ومضمونة قانوناً. من الأمثلة على البرامج التي تصنف في فئة نموذج “المحاسبة على الأعمال” برامج تدريب الناشطين في مجال حقوق الإنسان والناشطين في المجتمع على أساليب مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان وتوثيقها، وإجراءات التقدم بالشكاوى لدى الهيئات الوطنية والدولية المختصة. وهنا يمكن تعويد الطلاب على متابعة ما تنشره الصحافة والإعلام من قضايا حقوقية يمكن لهم الإسهام في مراقبتها والتأثير فيها مثل قضايا الطلاق بسبب عدم الكفاءة في النسب وآخرها قضية (أم ريماس) وكذلك قضية تزويج الصغيرات وآخرها قضية دعوى والدة اعترضت على تزويج طفلتها (ذات الثمان سنوات) لرجل في الخمسينات من العمر. وهذه مجرد أمثلة حية بسيطة يمكن أن يشارك الطلاب والطالبات في مراقبتها.

أما في النموذج الثالث، نموذج “التحوّل الاجتماعي”، فإن برامج تعليم حقوق الإنسان تتوخى تمكين الأفراد من معرفة انتهاكات حقوق الإنسان والتزامهم منع حصولها. ويتم في بعض الحالات توجيه برامج نحو مجتمعات بكاملها لا نحو الأفراد فحسب. يتضمن هذا النموذج أساليب (مرتكزة في جزء منها على علم النفس) تتناول التفكير بالذات والدعم ضمن المجتمع. ويشكل التركيز الرسمي على حقوق الإنسان واحداً من عناصر هذا النموذج والتي تشمل أيضاً تنمية القيادات، والتدريب على حل النزاعات. ويفترض نموذج التحول الاجتماعي أن يكون الطلاب قد مرّوا بتجارب شخصية يمكن اعتبارها انتهاكات لحقوق الإنسان مما يجعلهم مهيّئين سلفاً لأن يصبحوا من دعاة حقوق الإنسان. ويطبق هذا النموذج بفاعلية في حالات مخيمات اللاجئين، وفي مجتمعات خارجة من نزاعات، وفي حالات ضحايا سوء معاملة الأقرباء ولدى الجماعات التي تخدم الفقراء. ورغم طبيعة هذا النموذج العامة إلا أنه، وفي بعض الحالات، يمكن أن يطبّق في المدارس أيضاً حيث يمكن للدراسات المعمقة لحالات انتهاك حقوق الإنسان (مثل حالات الإبادة الجماعية) أن تشكّل عوامل مساعدة فعّالة في تناول موضوع انتهاكات حقوق الإنسان وترسيخ احترام الإنسان في الوعي الطلابي. وهنا يمكن أيضاً إدراج ما صدر مؤخراً من قرارات داعمة لحقوق المرأة فيما يتعلق بحق الأم المطلقة في الحصول على نسخ أصلية من الأوراق والإثبات الشخصي لأولادها وتنقل المرأة العاملة وسكنها دون محرم لتكون مثالاً على تمكين الأفراد من حقوقهم ضمن نموذج التحول الاجتماعي، فمثل هذه البرامج تسهم في مساعدة الطلاب والطالبات على تخيل حالات افتراضية يمكن لهم ولغيرهم أن يكونوا فيها ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان. إن حالات التقمص هذه تسهم في التغلب على عقلية “نحن” و”هم”، كما تسهم في زيادة الشعور بالمسؤولية الشخصية.

إن هذه النماذج المتميزة لتعليم حقوق الإنسان يمكن جمعها في صيغة معدّلة بحيث تشمل “هرم التعلّم”. ففي القاعدة العريضة نجد “نماذج القيم والإدراك”، وفي الوسط “نموذج المحاسبة على الأعمال” وفي القمة “نموذج التحوّل الاجتماعي”. ويمكن بلورة هذه النماذج لتكون نواة المادة التثقيفية لحقوق الإنسان في المؤسسات التعليمية لكي تشكل بحق انطلاقة عملية لا تقتصر على مجرد حفظ المادة النظرية بمعزل عن الممارسة الحياتية للطالب. إن ما يتوخاه تعليم حقوق الإنسان في نهاية المطاف هو العمل على إشاعة ثقافات حقوق الإنسان في مجتمعاتنا، والإسهام في تحققها والمحافظة عليها والعمل على محاسبة من ينتهكها.

المصدر : جريدة الوطن -