عبدالله القفاري - جريدة الرياض

عدد القراءات: 2044

القارىء للتطورات التي تعاقبت في السنوات الأخيرة في المملكة يلمح خطوات إصلاحية، الشهادة تقتضي الاعتراف بها، وأن ثمة جهداً يبذل في سبيل تحقيق خطوات ملموسة في طريق الإصلاح الطويل والشاق. من تلك التطورات التي تستحق القراءة والتأمل وإشاعة وعي حقوقي مهم بدلالاتها وكيفية استثمارها لصالح مشروع إصلاحي هي هيئة حقوق الإنسان سواء كانت الحكومية أو الأهلية.

لن اتحدث عن هيئة حقوق الإنسان الاهلية، التي يعرف الكثيرون عنها، وقد صاحب الاعلان عنها تغطية إعلامية مناسبة، ثم خفتت للاسف المتابعة الجادة لما حققته وما لم تحققه.. وفي رأيي أن النظم الجميلة والرائعة لا تكفي لتعميم فكرة حقوقية، قدر ما يلمس الناس نتائجها على ارض الواقع ويقيسون مدى نجاحها بمستوى انجازها.. ولا املك من المعلومات ما يكفي لقراءة ما تحقق عن هيئة حقوق الإنسان الوطنية، ولكن ربما كانت المساهمة في إشاعة ثقافة الحقوق تقتضي الالتفات أيضاً لمنظمة حقوقية اخرى لم يكتب عنها – بعد الاعلان عنها – ما يمكن ان يساهم في فهم واستيعاب معنى المرحلة وضرورات ان تكون مثل هذه الهيئة في مستوى قوة النظام الذي اخرجها للوجود وهي وإن كانت مازالت في طور التشكيل، إلا ان نظامها المكتوب يوفر قاعدة لقراءة الابعاد التي تنطوي عليها والمهمات التي تنتظرها.

أوراق اعتماد هذه القراءة تنطلق من فكرة العلاقة بين مشروع كتابة وبين مشروع مواد نظام، وعلاقة كل هذا بفكرة الإصلاح أو التحول الايجابي أو مواجهة أزمات أو مشكلات أو مستجدات أو البحث عن وسائل لتطوير كفاءة التعامل مع القضايا الحقوقية التي هي مهمة إصلاحية قبل أي شيء آخر.

إذن مشروعية الربط هنا، تكمن في ان فكرة اقرار الحقوق والعمل على مواجهة كل ما يمكن ان يؤثر على حقوق الإنسان هي فكرة قبل أي شيء آخر تصب في خانة الإصلاح وهي مهمة تأخذ طابع الانتصار لحق الإنسان أمام تغول أو تعسف أو سوء استخدام السلطة مما يؤثر على حقوق الإنسان بوجه من الوجوه.

إن فكرة حقوق الإنسان وإن كانت اخذت في السنوات الأخيرة بعداً عولمياً، وهي مادة حقوقية في دساتير النظم والدول والمؤسسات الدولية التي تزن كفاءة الدول بمدى قدرتها على تحقيق هذه الفريضة المرتبطة بالعدالة والانصاف وحفظ حق الإنسان أي كان وفي مختلف الظروف.. إلا انها تبقى فكرة إسلامية أيضاً خالصة، بشرت بها رسالة الإسلام منذ الايام الاولى للدعوة وفي منعطفها التاريخي في دولة المدينة وفي نهاية المرحلة النبوية الشريفة على ارض عرفات المقدسة في ارض المشعر الحرام.. ولست بحاجة هنا لاستعادة أدبيات حقوق الإنسان كما جاءت في الإسلام، فهي تستدعي اليوم للمقاربة التاريخية. والمعنى الكبير لا يكمن في القيم والأدبيات التي اشاعتها رسالة الإسلام وهي متداولة على المستوى المعرفي، قدر ما هو في امكانية احالة تلك القيم إلى نظم وواقع وانجاز.

العلاقة بين اقرار حقوق الإنسان والعمل على ضوء مفاهيم حقوق الإنسان في دولة مؤسسات ونظام وقانون هي مؤشر على حركة إصلاحية تستوجب التفاعل معها، وإشاعة ثقافتها والتمسك بنظامها، والمجهود الإصلاحي الحكومي في التنظيم والتأسيس لا يؤتي ثماره طالما كان الإنسان/المواطن ينظر لمثل تلك القضايا باعتباره شأناً حكومياً، لأن هذا الإنسان باختصار هو مادة النظام وهدفه، وبالتالي عليه أن يتمسك بهذا الحق ويلح عليه. والعلاقة بين حقوق المواطنة وحقوق الإنسان علاقة لا تحتاج لكثير بحث، فهي علاقة شرطية، أي ان حقوق الإنسان هي تجسيد أيضاً لحقوق مواطنة، وإن كانت حقوق الإنسان تتجاوز حقوق المواطنة لكنها في جزء مهم منها هي في صلب حق ومفهوم المواطنة أيضاً. واعتقد ان النظام الذي صدر بالمرسوم الملكي في الثامن من شهر شعبان من العام 1426ه، في مجمله هو دستور حقوقي، وإن جاء منظماً لهيئة حقوق الإنسان، فهو جاء أيضاً ليتوج مرحلة علينا ان نستوعب ان حقوق الإنسان ليست شعاراً براقاً تتزين به مؤسسات قدر ما هو انجاز يمكن رصده ومتابعته ومساءلته وإشاعة ثقافته.

إن الاعتراف بقيمة منجز مثل هذا النظام الرائع يستوجب أيضاً الاعتماد عليه في اقرار الحقوق وإشاعة مفاهيمها والتمسك بها، ليس لأنه تمسك فقط بنظام أصدرته الدولة ورعته القيادة بل لأنه – وهذا هو المهم – ينسجم مع تطلعات الإنسان الطبيعية للعدالة والكرامة وحقه في الحياة.

القارىء في المادة الخامسة لنظام هيئة حقوق الإنسان يجد أن ثمة عناصر بالغة الاهمية، بل أن ما اقره النظام في هذه المادة التي اشتملت على ثمانية عشر بنداً، سيجد انها تغطي كثيراً من المسائل التي يمكن بقوة النظام معالجتها، وهي تعالج في مجملها العلاقة الحقوقية بين الأجهزة الحكومية – كجهاز سلطة تنفيذية – وبين الإنسان الذي يستهدف هذا النظام تمكينه من حقه، بقدر ما تعطي هذه الهيئة المرجعية والمسؤولية – أمام النظام – بكل ما يتعلق بمسائل حقوق الإنسان بالمملكة.

البند الاول من المادة الخامسة في نظام الهيئة يعطيها الحق بالتأكد من تنفيذ الجهات الحكومية المعنية، للانظمة واللوائح السارية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، والكشف عن التجاوزات المخالفة للانظمة المعمول بها في المملكة والتي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان، واتخاذ الاجراءات النظامية اللازمة في هذا الشأن، والبند الثالث يعطي الهيئة صلاحية متابعة الجهات الحكومية لتطبيق ما يخصها من الصكوك الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت لها المملكة والتأكد من اتخاذ تلك الجهات الاجراءات اللازمة لتنفيذها، والمادة السادسة تعطي الحق للهيئة لزيارة السجون ودور التوقيف في أي وقت دون اذن جهة الاختصاص، ورفع تقارير عنها إلى رئيس مجلس الوزراء. المادة السابعة تعطي الهيئة الحق في تلقي الشكاوى المتعلقة بحقوق الإنسان والتحقق من صحتها. بالإضافة إلى المواد الاخرى التي في مجملها تصب في دور الهيئة في إشاعة مفاهيم حقوق الإنسان ونشر الوعي حولها، ودور الهيئة في العديد من المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان في المملكة وعلاقتها بالمنظمات الوطنية والاقليمية والدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان، بالاضافة إلى مواد التنظيم الداخلية لهيئة حقوق الإنسان.

أعتقد ان قراءة مواد نظام الهيئة التسع عشرة يعطي تصورا كافيا عن الدور المناط بالهيئة والرغبة الأكيدة في أن يكون ثمة هيئة حقوقية حكومية قادرة على القيام بمهامها على وجه يمكن استثماره لصالح هذه المسألة البالغة الاهمية.. ولذا تبقى المهمة الكبرى أن تحقق هذه الهيئة أهدافها وهذا ربما يكون مرتبطا بعاملين أساسيين.

أولهما ان يتحول النظام الرائع إلى رصيد على أرض الواقع يسجل لصالح الإنسان ولصالح الهيئة كمشروع ولصالح الإرادة الملكية الإصلاحية التي أصدرت هذا النظام.. قوة هذا النظام يستمدها من الصلاحيات الممنوحة له، وقوة هذا النظام يستمدها من مرجعيته النظامية. فالهيئة شخصية اعتبارية لها استقلالها التام في ممارسة مهامها المنصوص عليها في النظام وهي ترتبط برئيس مجلس الوزراء، وبالتالي فهي تستمد قوتها من أعلى سلطة في الدولة. وعندما تكون ثمة ارادة ملكية كريمة تقف خلف نظام، وعندما تكون مواد هذا النظام والصلاحيات الممنوحة للهيئة في هذا المستوى فسيكون هذا عاملا إذا استثمر حقاً فهو من أكبر العوامل التي تدفع لنجاح الهيئة في تحقيق مهامها. ولأن للهيئة مجلساً معيناً بأمر من رئيس مجلس الوزراء فالمتوقع أيضاً ان يكون هذا التشكيل منسجماً مع أهداف هذه المؤسسة ومحققاً لشروطها ومتمسكاً بنظامها.

اعتقد ان لدينا نظما كثيرة لو تم تفعيلها لحققت الأهداف التي وجدت من أجلها، المشكلة ان النظام الرائع وحده لا يكفي لتحقيق نتائج ملموسة يمكن قياسها وتعطي مشروعية أكبر لمؤسسة أو نظام.. خاصة في مسائل حساسة مثل قضايا حقوق الإنسان.. وهنا تأتي مهام المسؤولية المباشرة للقائمين على تنفيذ النظام.. وهنا فقط تظهر إرادة تفعيل النظام.

الأمر الآخر الذي أراه عاملاً مهماً لانجاح عمل الهيئة، هو ذاك المتعلق بالوعي الحقوقي العام، فالهيئة عنصر نشاطها الرئيس هو الإنسان، وهي هيئة حقوق إنسان، وبالتالي التعامل مع الهيئة على انها مجرد هيئة حكومية، أو واجهة حكومية معنية بحقوق الإنسان لا يكفي لمساعدة الهيئة على تحقيق أهدافها.. نظام الهيئة معني أيضاً بنشر ثقافة حقوق الإنسان والتوعية بها – كما جاء بالبند الثامن من المادة الخامسة – لكن هذا الإنسان عليه ان يتمسك بهذا النظام، ويعتبره انجازاً يستحقه وتستحقه دولة وكيان ووطن.. فهو نظام صدر من أجل اقرار تلك الحقوق والمساعدة في تحقيقها ورفع أي عوائق تقف في طريق تنفيذها.. وبالتالي فإن مشروعية الحقوق تقتضي الاعتماد في تحقيقها على مشروعية نظام له مواده وبنوده ويحظى بالدعم لتنفيذه ومرجعيته هي أعلى سلطة سياسية في البلاد.

اعتقد ان توفر هذين العاملين شرط مهم لاكتشاف قيمة وأهمية مثل هذا النظام، وأعتقد ان العودة – للمهتمين – لقراءة اخرى في مواد ونظام الهيئة ربما تسهم  أيضاً في دعم احد أهداف هيئة حقوق الإنسان، وهو تنمية الوعي بحقوق الإنسان ونشر ثقافتها.

المصدر : جريدة الرياض -