شايع بن هذال الوقيان - جريدة عكاظ

عدد القراءات: 1469

إن بعض التوجيهات والقرارات التي اتخذتها وزارة التربية والتعليم بخصوص منع الضرب والإهانات الجسدية والنفسية للطلاب دليل على تطور في الوعي التربوي لدينا، فخطورة العنف تشتد حينما تكون موجهة للصغار الذين سيشكلون لاحقاً نواة المجتمع وقلبه. فإذا كان هذا القلب مريضاً بالعنف وبسبب العنف فإنه سينقل مرضه إلى المجتمع، والمجتمع لن يعيش حالة سلم وأمن ما دام العنف هو سيد الكلمة.

 ليس الاعتداء الجسدي أو ضرب الطلاب في المدارس والأبناء في البيوت و الأطفال في الشوارع إلا صورة واحدة من صور العنف. فالعنف يتخذ أشكالاً عديدة, جسدية ونفسية ولفظية واعتبارية وأخلاقية. ويمكن تقديم تعريف مؤقت للعنف بوصفِه نقيضاً للحرية. أجل. فغياب الحرية يعني حضور العنف. فحينما أمنع الطفل من الكلام والتعبير عن ذاته كما يشاء وإبداء رغباته ومطالبه فإنني أمارس عنفا عليه حتى ولو كنت أباه الذين يعرف مصلحتَه أكثر منه. فدور الأب – برأيي – ليس أن يصوغ ابنَه كما يريد هو، بل أن يساعد ابنه لكي يبني نفسه بنفسه ولكي يحقق ذاته وإمكاناته ومواهبه. فمهمة الأب هنا محايدة وهي إزالة العوائق التي تقف في طريق تحقيق الابن لذاته، وإذا تدخَّلَ وقرر عن ابنه القرارات ورسم له مسار حياته وأجبره على أن يقتدي به في كل صغيرة وكبيرة فقد دخل في دائرة العنف وليس التربية.

 سمعتُ كما يسمع جميع الناس أن آباء كثيرين يمنعون أولادهم من اللعب مع أقرانهم أو يحبسونهم في المنزل خوفاً عليهم, والأغرب من هذا وذاك أن هناك آباء يمنعون أبناءهم من التعليم!. وقد صرَّح أحد الرجال المعروفين في المجتمع – في قناة محلية – أنه منع أولاده من الذهاب إلى المدرسة وبرر قوله تبريراً غير واضح، ولكن الحقيقة أنه كان يتبع نهجاً فكرياً خطيراً يعتبر المدارس النظامية مؤسسات غير شرعية ومخالفة للقيم الدينية، وله الحق في اعتناق ما يريد من أفكار مادامت لم تؤدِ للإرهاب وللاعتداء على حريات الآخرين، ولكن من أعطاه الحق لكي يمنع أولاده من التعليم؟! وهل أخذ رأيهم؟ وهل كونه أباً لهم مبرر لكي يتحكم في حياتهم بهذا الشكل؟ إن أولادك أيها الأب – كل أب – ليسوا ملكاً لك كأي متاع تملكه، بل هم كينونات إنسانية حرة ومستقلة ولا يمكن العبث بمستقبلها وبتفكيرها. إن عزل الأبناء عن المجتمع هو ضربٌ من العنف.

 فلنعدْ إلى دوائر التربية والتعليم وإلى المدارس وخصوصاً الابتدائية؛ من المحقق أنَّ نفسية الطفل ليست ناضجة ولا صلبة بما فيه الكفاية، فالرجل يكون رجلاً إذا استطاع أن يتقبل ويتحمل المصاعب والشدائد، وأما الطفل فلا يمكن مطالبته بما لا يطيقه. إن تقديم مناهج أو مواد تربوية تتعامل مع الطفل كرجل هو عنف أيضاً.. وهل يجلب طمس الطفولة في روح الطالب إلا البلاء النفسي والعقلي؟ لماذا نستعجل على الطفل ليكون رجلاً، فلنتركه يعيش طفولته بكل حرية، ولنتعامل معه بناء على هذا الواقع ؛ واقع أنه طفل وأنه لا يتحمل المصاعب ولا النصائح والتوجيهات «الرجولية»، إن له عالماً مختلفاً عن عالمنا نحن الكبار . أما الذي يحدث في مدارسنا ومناهجنا ومقرراتنا فهو أن الطفل رجلٌ صغير يجب الإسراع به لكي يدخل في عالمنا، يجب الإصرار عليه لكي يكبر بسرعة!.

 لقد انشغل التعيلم عندنا باقتباس استراتيجيات التعليم والتدريس من الغرب والشرق، ولم يفكر في أن يصرف المبالغ الطائلة من أجل تخريج وتهيئة متخصصين نفسيين واجتماعيين يكون شغلهم الشاغل هو دراسة الواقع التعليمي والتربوي ومراقبة التجاوزات ورصد هذا المجتمع الصغير الذي تحده المدرسة بحدودها الضيقة، ومن ثم الخروج بنتائج علمية رصينة تقدَّم إلى الوزارة لكي تتخذ القرارات بناء عليها وتضعها نصب أعين المسؤولين فيها وخصوصاً المسؤولين عن كتابة المواد وتحديد المناهج. كثيراً ما أستمع في قنوات التلفزة أو الإذاعة إلى متخصصين نفسيين أو اجتماعيين سعوديين رائعين فأتحسَّرُ على تعليمنا الذي يتجاهل وجودهم ولا يستفيد من خبراتهم. وبدلاً من ذلك فإننا نأخذ بنتائج المتخصصين والعلماء الغربيين واليابانيين وننسى أن لهم واقعاً مختلفا عن واقعنا وأن هؤلاء قد أجروا دراساتهم الميدانية في مجتمع غير مجتمعنا – رغم فائدة التواصل معهم والاستفادة من تجربتهم. أليس التساهل في تربية ورعاية الطلاب نوعا من العنف. نعم إن تركَ الطلابِ بيد أناس غير متخصصين ولا يفقهون في علوم الطفولة شيئاً هو تساهل يجر إلى العنف بصورة مقصودة أو غير مقصودة . وسأضرب مثلاً على ذلك بما يسمى النشاط اللاصفي وهو يهدف – مبدئياً – إلى أهداف تربوية نبيلة، ولكن هل تحققت الفائدة المرجوة منه؟ للأسف لا. لأن القائمين على هذه الأنشطة يعانون نفس المشكلة؛ أي أنهم من الفئة التي لا تفقه شيئاً ذا بال فيما يختص بسيكولوجية الطفل وعقليته . وثمة فئة أخرى تفقه ما تفقه ولكنَّ لها أغراضاً أيديولوجية تستحثها على امتلاك عقول الأطفال من أجل ضمان ولائهم لهم مستقبلاً وهؤلاء أخطر فئة؛ فهي تمارس العنف بصورة مشروعة أو تحت دعاوى قيمية أو أخلاقية أو دينية لكي تبرر أساليبها التربوية الغريبة. أعلمُ كما يعلم كثير من الناس أن هناك مواد ومنشورات وكاسيتات و سيديهات تقدم للأطفال بعيداً عن الرقابة، أي أنها وسائل تعليمية وتربوية غير مقررة من الوزارة، وربما أن الوزارة تعلم بها ولكنها تغض عنها الطرف لأن أصحابها من ذوي النوايا الطيبة، ولكن النية الطيبة لا تكفي. ولي أن أسأل : هل بث الرعب والخوف في نفوس الطلاب عمل تربوي؟ هل التربية أو التقوى أو الانضباط الأخلاقي لا يكون إلا بترويج القصص أو المشاهد أو الأفلام المرعبة التي تصور عذاب القبر والموت وحوادث السيارات والجثث المتساقطة والأشلاء المتناثرة؟! إنني أصر على أن مثل هذه الأنشطة هي أنشطة عنفية حتى ولو كانت نوايا هؤلاء المدرسين أو المربين طيبة ونزيهة. فكيف يعيش امرؤ حياةً مسالمة ومتفائلة ومتفوقة والخوف قد استوطنَ قلبَه منذ أن كان صبياً يافعاً؟!

المصدر : جريدة عكاظ -