خالد عبدالعزيز النويصر - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1730

 

خالد عبدالعزيز النويصر – جريدة الوطن

السجن عقوبة قاسية وبشعة وشنيعة، لكنه يظل خياراً لا بد منه في حال وقوع الجرم، وإلا عمت الفوضى في المجتمع وانتشرت الجريمة، ولذلك لجأت إليه كافة المجتمعات الإنسانية منذ فجر الخليقة، والأرجح أن ذلك سوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
إلا أن عقوبة السجن فيما يُسمى بـ(سجناء الحق الخاص) مسألة تستحق التوقف والتأمل كثيراً. فقد اكتظت السجون بهذه الفئة من السجناء، ومن المتوقع أن تتزايد هذه الأعداد خلال السنوات القادمة، نظراً لتعقد الحياة وكثرة مطالبها وزيادة احتياجاتها وخلافه.
ولقد حاولت الدولة إيجاد حلول لهذه المشكلة مثل إنشاء لجنة السداد بالمديرية العامة للسجون ولجنة رعاية السجناء في إمارات المناطق واللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم، إلى جانب الجمعيات الخيرية ودعم أهل الخير والمحسنين وغير ذلك من الإجراءات الأخرى التي تتم وفقاً لمعايير محددة ليس المجال هنا يتيح الخوض فيها. لكن كل هذه الخطوات تظل جزئية ومبتسرة، إذ لابد من إيجاد حل جذري لهذه المشكلة التي تُعد آثارها وأضرارها أكثر بكثير من فوائدها، إضافة إلى ما ينتج عنها من انتهاك لكرامة الإنسان وإذلال لكبريائه، ناهيك على أنه في كثير من الحالات ليست هناك فائدة من إلقاء الناس في السجون لعدم قدرتهم على سداد ديونهم، بل إن وجودهم في السجن ربما يعيق أية محاولات من قبلهم لسداد ما عليهم من دين مستحق للغير، ولذلك فإن سجن أي إنسان لعدم قدرته عن سداد دينه هو أمر يلقي بظلاله السلبية على عدة أطراف، هم الفرد وأسرته والمجتمع والدولة أيضاً. فأما ما يتعلق بالفرد، فإن الزج بأي إنسان في السجن في قضايا الحق الخاص فيه ضرر فادح وكبير على ذلك الشخص المدين، حيث إن مجرد دخوله للسجن هو بداية لتهيئته ليكون مجرماً في المستقبل أو على الأقل يضحى مريضاً ومحطماً نفسياً وعقلياً ليصبح بعد ذلك عالة على المجتمع، بل وربما خطراً عليه. أما فيما يتعلق بالأسرة، فماذا هو مصيرها بعد أن كانت تنظر لراعيها بكل إجلال وتقدير وتجده فجأة مسجوناً، فضلاً على أن هذه الأسرة سوف تفقد مصدر دخلها، حيث يُتوقع من مثل ذلك الشخص المسجون أن يُفصل من عمله أو يُعطل أي مصدر لدخله طالما هو رهن السجن، ناهيك عن الضرر النفسي والتربوي والأخلاقي الذي يلحق بأبنائه وبكافة أسرته والذي قد يقود إلى انحرافهم وضياعهم جميعاً.
أما المجتمع، فالخطر عليه كبير حيث إن الشخص الذي يُسجن ثم يُفرج عنه يتوقع أن يصبح في كثير من الحالات شخصاً غير سوي وربما يصبح ذا نزعة إجرامية، حيث إنه لن يخشى بعد ذلك أي عقوبة أخرى طالما أنه عاش هذه التجربة القاسية من قبل. أما فيما يتعلق بالدولة، فالفرد الذي يُسجن يكلفها الكثير، فهو يحتاج أثناء سجنه إلى عناية نفسية وصحية ومعيشية ومتابعة مستمرة، فضلاً على الجوانب الأمنية التي تحتاج إليها هذه الأعداد الكبيرة من السجناء وتكلفة السجون، إلى جانب التكلفة المادية الباهظة على الدولة نظراً لأن كل سجين يكلف ما يقارب (11.000) ريال شهرياً، إضافة إلى أن ذلك الإجراء لا يتفق مع اتفاقيات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية.
لذلك، فقد حان الأوان لاتخاذ القرار الكبير بإلغاء عقوبة السجن لسجناء الحق الخاص وأن يُستثنى من ذلك حالات النصب والاحتيال والسرقة والشيكات بدون رصيد والنفقة على الأبناء، وأن يصدر نظام عاجل بخصوص هذا الأمر يوضح كافة التفاصيل التي تتعلق به، بما في ذلك الحلول التي تمنع من استغلال هذا النظام وترد للناس حقوقها دون الحاجة للسجن. نعم سيكون هناك ـ في حال صدور مثل هذا النظام ـ متضررون، لكن الأكيد أن الضرر سيكون أقل بكثير من ضرر زج الناس في السجون كما هو الحال عليه الآن.
كما أنه قد حان الوقت ليتحمل الدائنون مسؤولياتهم من خلال إيجاد آليات معينة في التعامل التجاري مع الآخرين، بدلاً من التعويل على خيار السجن الذي يؤثر على المجتمع بشكل سلبي كبير. إن هناك حلولا عديدة وبديلة يمكن تطبيقها مثل: مصادرة الأملاك الثابتة أو المنقولة إلى الحد الذي يغطي قيمة الدين، المنع من السفر، تجميد الحسابات البنكية إلى ما يصل قيمة الدين، إعطاء القضاة صلاحية اقتطاع جزء من راتب الموظف أو العامل في القطاع الخاص، تعطيل كافة المصالح عن طريق الحاسب الآلي، أو الحكم على المدين بأي من العقوبات البديلة، دون الإخلال بحق الدائن في العودة على المدين متى ظهر أن لديه المال أو الممتلكات التي تساعد على سداد دينه، ويا حبذا لو بادرت المملكة في حال تطبيق هذا النظام بأن تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي بمنع أي فرد عمل فيها من خارج هذه الدول من العودة للعمل في حال تركه أيا من تلك الدول وذمته مشغولة بحق خاص صادر به حكم قضائي.
إن صدور نظام بإلغاء عقوبة السجن لقضايا الحق الخاص يحتاج أيضاً إلى التعجيل في صدور أنظمة أخرى تحمي حقوق الناس وإلى تفعيل الأنظمة الحالية وتطوير البنية القانونية للوطن بشكل سريع وشامل، حيث إن هذه الأنظمة جميعاً هي بمثابة منظومة متكاملة والإخلال بأي منها يفضي إلى الإخلال بالمنظومة ذاتها برمتها.
والأمر الأخير، وحتى يصدر ذلك النظام، فإنه من الضروري أن يتم إلغاء ما يسمى بالكفالة الغرمية وأن يحل بدلاً عنها الكفالة المالية، حيث إن الأولى هو في حقيقة الأمر دعوة علنية وصريحة في كثير من الحالات للسجن وهو ما يحدث لدينا وللأسف الشديد، حيث لا يطال السجن الشخص المدين فحسب، بل الكفيل الغارم أيضاً في حالة العجز عن السداد، وبذلك يصبح كلاهما عبئاً وخطراً على المجتمع بعد أن تكون قد انتشرت ثقافة السجن لدى الفرد ومن ثم الأسرة إلى أن يصل الأمر إلى شريحة كبيرة من المجتمع.
لقد أنعم الله عز وجل على هذه البلاد بشريعة عظيمة تتسع لحل كافة مشاكل الناس والحياة، لذلك لا بد من العمل في هذا الإطار لتظل صورة المملكة دوماً وأبداً مشرقة وحضارية وإنسانية أيضاً لتحافظ على كرامة وعزة أبنائها، حيث هذا هو ـ ولله الحمد ـ نهجها منذ عهد الملك المؤسس وإلى عهد ملك الإصلاح (رعاه الله).

المصدر : جريدة الوطن -