أحمد خالد السديري - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1045

برهنت الأيام على أن كثيرا من خريجي كليات الشريعة والذين لم يدرسوا في الفقه وأحكام الجنايات في الشرع إلا كتاب”الروض المربع للإمام الهوتي” وغالب ما أورد فيه من أحكام ركنت إلى اجتهادات أرمس الدهر عليها، فمن توصل إليها كان ينظر في قضايا مضت عليها قرون، أي لا تثور في أيامنا هذه

لو يممنا شطر القضايا الجنائية فإن المحاكم الجزائية أو الجنائية ستختص بالجرائم التي حددت لها عقوبات في الشريعة كجرائم الحدود، وكذلك جرائم التعازير، أي تيك التي لا تعد من جرائم الحدود وسيأتي يوم تحدد فيها بتشريع جمع العقوبات في هذه الجرائم، إذ لا يسوغ في اعتقادي أن تترك هملا مصائر مقارفي جرائم كهذه إلى قضاة، كقضاة المحاكم الجزئية فيصدرون ما يعن على فهم بال من أحكام غالبها حوت عقوبات، هو من القسوة التي توردها موارد الجور والظلم، إلا أن هناك من جرائم التعازير ما حدد لها ولي الأمر عقوبات معينة بتشريعات كجرائم الرشوة والتزوير والتزييف والمخدرات، وفي اعتقادي أن من سيحكم في جميع هذه سواء كانت جرائم حدود أو تعازير، يلزمه دراسة الأحكام العامة لنظرية الجريمة والعقوبة في الشريعة والقانون العام وعلم الإجرام، وهي نظريات لا تدرس في كليات الشريعة، وإذا كانت هذه الجرائم الأخيرة (أي الرشوة والتزوير وغيرها) قد حددت قواعدها وشروطها وطبعتها وعقوبات بتشريعات فإنه بالضرورة سيكون لها قسم أو غرفة بالمحاكم الجنائية، تسدي إليها ولاية النظر فيها، والتجارب تنضح بأن دورات لثلاثة أشهر أو تزيد لخريجي كليات الشريعة غير كافية للقضاء في جرائم كهذه، فهي لا تدرس إطلاقا في هذه الكليات مع الأسف، ومن ثم فهم لا يدرون ما هي هذه الجريمة وما هي أركانها وطبيعتها، لذا فإنهم بعد تعيينهم لا بد أن يمضوا حينا من الدهر، كي يكتسب بعضهم الخبرة ويضحي راسخ العلم بأحكام جرائم كهذه مع أن بعضهم يظل كما كان، ولذا فإنه تحسن الاستعانة بالقضاة الذين، يتولون هذه القضايا في الدوائر الجزائية بديوان المظالم، خاصة أنهم قد مضى عليهم سنوات طوال في هذهالدوائر، اكتسبوا خلالها التجارب التي تؤهلهم كقضاة في هذه المحاكم، ولعلي أهتبل الفرصة وأقدم هذا الاقتراح لمعالي رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وأقول إن الذين يتخرجون من قسم العدالة الجنائية، بجامعة الأمير نايف الأمنية، يتلقون دروسا جادة ومتعمقة عن نظرية الجريمة والعقوبة، في الشريعة والقانون بوجه عام، بل يدرسون علم الإجرام والإجراءات الجزائية والإثبات وولاية القضاء، ودراستهم فيها تضاهي فيالواقع، ما يدرسه طلاب أرقى كليات الحقوق، وبالبداهة فإنهم يدرسون أيضا جميع الأنظمة التي صدرت في هذه الديار ونظمت أحكام بعض الجرائم كالتزوير والرشوة والمخدرات، ومعروف أن هذه الجامعة تمنح شهادات الماجستير للطلاب الذين يقدمون رسائل جادة لمواضيع جنائية تحتوي على دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون، فلماذا، لا يدربون من ستة إلى تسعة أشهر ثم يستعان بهم كقضاة في الدوائر التي تختص بنظر جرائم كهذه في المحاكم، الجزائية أو الجزئية، ولا غرو فهم تنطبق عليهم اشتراطات المادة 31/د، من نظام القضاء إذا ما أجروا امتحانا خاصا أمام مجلس القضاء الأعلى، كما أني أضيف إلى هؤلاء أولئك الذين تمرسوا في التحقيق مع المتهمين بجرائم هيئة الادعاء أو في الرقابة والتحقيق، إذ تخرج هؤلاء من كليات الشريعة ودرسوا أيضا في معهد الأنظمة، وبعضهم درس في جامعة الملك سعود، أو كليات الحقوق بمصر، ولا شك أن من مضى عليه عهد ضارع عشر سنوات، فإنه بالضرورة قد أضحى خبيرا عليما بالقواعد التي تحكم هذه الجرائم، بل هو أقدر وأعرف في القضايا الجنائية أو الجميع، من ذلك حديث التخرج من كلية الشريعة، وعين كملازم قضائي، هذا إذا عرفنا أن كل القضاة في مصر يعينون بعد أن أمضوا سنوات في النيابة العامة، بل أزيد هنا أيضا وأقول إنه تحسن كذلك الاستعانة بقضاة متقاعدين من مصر، فهم ذوو خبرة لا تضاهى ليدربوا هؤلاء القضاة ويعينوهم في بدايات عهدهم بالقضاء.

أقول قولي هذا بعد أن برهنت الأيام على أن كثيرا من خريجي كليات الشريعة والذين لم يدرسوا في الفقه وأحكام الجنايات في الشرع إلا كتابا غالب ما أورد فيه من أحكام ركنت إلى اجتهادات أرمس الدهر عليها، فمن توصل إليها كان ينظر في قضايا مضت عليها قرون، أي لا تثور في أيامنا هذه، ولكن هذا الكتاب ظل كمنهج بعد أن خال أولئك الذين فرضوه وتشبثوا ببقائه كمنهج، وكأنه ما فرط في شيء، وأعني هنا كتاب (الروض المربع للإمام الهوتي)، فبعض القضاة الذين تقتصر معارفهم الشرعية على ما ورد فيه لا يثبتون كفاءة، وإن مضى عليهم عهود طوال، فهذه الأنباء تترى عن أحكام، لم يجد بعض قضاة المحاكم الجزئية غضاضة، في إصدارها، فهي في قسوتها على بعض المتهمين، من صغار الجانحين تبلغ شأوا يوردها في موارد الجور، فهم يجترئون على إصدار هذه الأحكام رغم إهدارها لأحكام التعزير، التي أجمعت عليها مذاهب الشريعة، لماذا؟ لأن هؤلاء القضاة لا يراعون الظروف الاجتماعية لكل متهم، وما إذا كان حاله يسدي للقاضي الأخذ بالظروف المخففة حياله، ولا ينظرون إلى عمره، وما إذا كان بلغ الحلم أم لا، وما إذا كان تجوز مساءلته شرعا عن جنحة جنائية، فكثيرا ما تصدر من بعضالقضاة بالمحاكم الجزئية بل والمحكمة العامة، أحكام على صبية أغراو سفهاء لم يبلغوا الحلم فحواها إنزال عقاب جنائي فيهم، كالحبس أو الجلد وخلافه، ورغم أن نصوص القرآن والسنة وما أجمع عليه الفقهاء المسلمون في جميع المذاهب تجمع على امتناع المسؤولية الجنائية عن الصغير، فعقله موجود بالقوة وليس بالفعل، ومن ثم فإنه لا يستطاع القول بوجود القصد الجنائي، الأمر الذي ينهار معه الركن المعنوي للجريمة، ومن ثم يتهاوى اتهامه من عاليه إلى سافله،(انظر المغني ج 4 ص297)، والنظام الجنائي الإسلامي لمصطفى المحسن ج3 ص322 وما بعدها، والتشريع الجنائي الإسلامي لعودة ج1 ص 602، وجامع الفصولين ج2 ص140، والمبسوط للسرخسي، ج9ص84)، وكل هذا يعني عدم إدراكهم أن العقوبة هي تهذيب وإصلاح أكثر منها زجر وردع، وخصوصا لمن كان من المتهمين غرا في شرخ شبابه، كل هذا يقطع بأنهم يصدرون أحكاما وهم معرضون عن قوله جل وعلا في محكم كتابه، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

المصدر : جريدة الوطن -