محمد السعد - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1889

لطالما تسبب التعصب الديني بحروب دامية ذهب ضحيتها الكثير من الضحايا، وكان على الدوام حائلا دون نهوض الأمم والحضارات، وهادما كل جسور التعارف بين أفراد المجتمع بمختلف انتماءاتهم لينهل كلُ مما عند الآخر من خير.
وعصرنا هو عصر المعايير المزدوجة والمواقف المتناقضة والمنظمات الدولية والإقليمية التي فقدت مصداقيتها وأصبحت توظف مفهوم التسامح الديني في خدمة مصالح سياسية معينة وجعلت البشرية تقترب مما أسماه صمويل هنجتون «صدام الحضارات».
إن عصرنا مشتعل بالحروب، وإن لم تكن حربا بالسلاح فعلى أقل تقدير فحرب بالأفكار والثقافات التي ستجر هي الأخرى نحو التعصب والتطرف واستخدام العنف، حتى تسلل إلينا الانطباع بأنه لا أحد ينجو من جرثومة اللاتسامح، فمواقف وممارسات التسامح تنطوي غالبا على النفاق والعنصرية وعدم التسامح، واستحال مع ذلك التفريق بين زمرة المتسامحين وزمرة غير المتسامحين، وأصبح مفهوم التسامح يقع في منطقة رمادية يصعب تمييزها والتعرف عليها.
في عصر شهد صراعا دينيا دمويا بين الكاثوليك والبروتستانت نشر الفيلسوف الفرنسي ورائد التنوير الشهير فولتير كتابه «رسالة في التسامح» الذي يعد مرافعة جريئة ضد التعصب الديني الكاثوليكي، مبينا أن التعصب الديني قد نشر المجازر على كوكب الأرض، وتسبب بأضرار ومصائب وحروب دينية كانت في دمارها وأضرارها أشد بكثير من أنواع الحروب الأخرى.
وطرح فولتير نموذجا للتسامح يتمثل في ديانة الإغريق والرومان، فقد كتب في «ميثاق التسامح» أن اليونانيين لم يشعروا بالغضاضة من إنكار الأبيقوريين للعناية الإلهية، وكان في أثينا معبد مخصص للآلهة الأجنبية، وللآلهة غير المعترف بها. وتساءل فولتير: «هل هناك دليل أبلغ من هذا على احترام كل الشعائر؟».
دعونا نأخذ نموذجا آخر لبلاد شهدت حضور أغلب الديانات التوحيدية، إنها بلاد مصر أرض الكنانة، فكل الأديان السماوية لها موضع قدم في بلاد مصر، فيها التقت حضارات عدة، ومنها هرب الشعب اليهودي من بطش الفراعنة، وهو نفس الشعب الذي نفاه البابليون، وبسبب تمرده على الرومان تعرض لأقسى أشكال التنكيل والتشتيت، وفي بلاد عديدة أصبح عرضة لكل أنواع الاضطهاد والتمييز.
كيف عاش اليهود والأقباط في مصر قبيل الفتح الإسلامي، وهل عاشوا في جو من التسامح الديني في ظل الدولة الرومانية؟ منذ أن وقعت مصر في قبضة الرومان بعد هزيمة كليوبترا على يد أوكتافيوس، وقد تحولت مصر لمجرد مخزن يمد الإمبراطورية الرومانية بمتطلباتها من المواد التموينية والغذائية، وتدهورت أحوال مصر الاجتماعية والعلمية، وزاد التذمر بين الأفراد بسبب الاضطهاد الذي تعرض له الأقباط على أيدي الرومان، وبعد الفتح الإسلامي يقول فاتح مصر القائد عمرو بن العاص: «قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت».
ويقول عباس محمود العقاد في كتابه «عمرو بن العاص» تعليقا على كلام فاتح مصر: «ولكنه مع هذا شاء غير القتل وغير التخميس وغير البيع، فعامل الرعية في أمور دينها ودنياها معاملة رضيتها، وأطلقت ثناءها، وجعلت البطريق بنيامين يسمي عهد العرب بعهد السلامة والأمان، وعهد الرومان بعهد الجور والطغيان». فقد كان البطريق بنيامين هاربا في الصحراء بسبب اضطهاد الرومان، ولكن عند قدوم عمرو بن العاص قام بتكريمه وتقريبه حتى صار من أعز أصدقائه، وأعاده لمكانته السابقة.
كان من أجمل الصور التي عكست مقدار التسامح في هذه الحقبة الزمنية من تاريخ مصر، أن قام عمرو بن العاص بتأسيس مدينته الشهيرة «الفسطاط» وبناء مسجده، أول مسجد في إفريقيا ومصر في منطقة تسمى اليوم «مجمع الأديان» في مصر القديمة، فهي تعد مجمعا للأديان السماوية الثلاثة، فقد كان مسجد عمرو بن العاص يبعد أمتارا قليلة عن الكنيسة المعلقة وعن معبد بن عزرا أهم المعالم اليهودية في مصر.
يستطيع السائح اليوم أن يتنقل على قدميه لزيارة جامع عمرو بن العاص الذي شارك بعض الصحابة في تصميمه، الذي يجاوز الكنيسة المعلقة التي بنيت على أنقاض مكان احتمت فيه العائلة المقدسة (مريم العذراء والمسيح عليه السلام ويوسف النجار)، وتم تجديد هذه الكنيسة بأمر من هارون الرشيد الخليفة العباسي. وبجوار المسجد والكنيسة يقع معبد بن عزرا، وهو أقدم المعابد اليهودية في مصر، وتروى قصص يهودية بأن موسى -عليه السلام- قد اختاره للصلاة.
ففي هذه البقعة الفريدة من العالم حيث تحتضن الكنائس المساجد وتتداخل أصوات أجراس الكنائس مع صوت الأذان، ولم يعترض أحد من الصحابة بداية من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب على موقع الفسطاط الجديدة الذي يكتظ بالكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، مما يعكس روح التسامح السامية عند الفاتحين الجدد، والتي لن تجدها في أي بقعة أخرى من بقاع العالم.
لم يهدم الفاتحون الجدد للمسيحيين كنيسة أو ديرا ولم يؤذوا راهبا أو قسيسا، بل إن عمر بن الخطاب ضرب عمرو بن العاص وابنه حينما اعتدى ابن عمرو بن العاص على أحد الأقباط، وقال كلمته الشهيرة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

 

المصدر : جريدة الوطن - 20-5-2018