-

عدد القراءات: 2964
د. عيسى الغيث – جريدة الرياض

 بدعوة كريمة من معالي وزير العدل الشيخ الدكتور محمد العيسى تشرّفت بحضور «ملتقى تسبيب الأحكام القضائية»، في محافظة جدة خلال الأيام الثلاثة الأولى من هذا الأسبوع، وذلك بمشاركة خبراء محليين ودوليين، حيث جاء الملتقى ضمن الملتقيات العلمية لمشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء، وبحضور عدد من أصحاب الفضيلة القضاة في محاكم الدرجة الأولى والاستئناف والمحكمة العليا وثلة من المختصين في القضاء والقانون، وقد تدارسنا العديد من الأوراق العلمية؛ حيث رصدت التجربة الوطنية واستعرضت نماذج إسلامية ودولية رائدة، وذلك في مجال صياغة الأحكام وتسبيبها من خلال أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها ونصوص النظام ومبادئ القضاء في المملكة.

لابد لتسبيب الأحكام القضائية من ضوابط تحدها فلا تنقص منها ولا تزيد، وأهمها بيان المستند الشرعي والقانوني للحكم، والمستند يتكون من ركنيْ الواقع والنص، وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فالتصور أولاً فالحكم بالشريعة والنظام ثانيا

ماهية التسبيب

إذا توصل القاضي إلى حكم في القضية، فإنه يصدر الحكم بناء على (أسباب) مبنية على التصور للواقعة من جهة، وإدراك للحكم الشرعي من جهة أخرى، ولذا فلا يجوز أن يكون الحكم مرتجلاً أو مرتبكاً، وإنما هو مبني على حيثيات تبرئ ذمة القاضي، فلابد إذن من أن نسبب الأحكام القضائية لكونها من الناحية المنطقية مقدمات تؤدي إلى نتائج، ولأجل أن تكون النتيجة (الحكم) مطابقة للواقع (الحقائق) فلابد أن تكون المقدمات صحيحة، فبيان الأسباب بواسطة التسبيب (الحيثيات) هو الأساس الذي تستند عليه النتيجة، والتسبيب هو بمعنى السبب، وهو كل ما يتوصل به إلى غيره، والذي جعله الشارع (إمارة) لوجود الحكم، لكون القاضي يميز الأسباب الواقعية والشرعية التي دفعته إلى الحكم، لكون (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، والتصور يكون للواقعة وبيّناتها ومرافعاتها ومدافعاتها ومآلاتها في الميزان، فيكون السبب التام اليقيني صحيحاً، وإن لم يكن كذلك فيصبح الحكم معلولاً إما جزئياً إن كان العيب شكلياً، أو كلياً إن كان العيب موضوعياً، ولذا فيجب عرض تسلسل مجمل الوقائع والطلبات والخلاصات ومن ثم الأسباب والمنطوق للحكم، ليكون التسبيب بذلك وسيلة للخصوم للتحقق من عدالة الحكم، وكونه ضمانة لحجية الحكم ونزاهته من الهوى أو الارتجال، فضلاً عن تمكين محكمة الاستئناف من فرض رقابتها على الحكم، سواء كان منطوقاً بنص البينات أو مفهوماً بلحن الحجج.

تنقيح المناط وتحقيقه

المناط هو (العلة) التي يدور عليها الحكم وجوداً وعدماً، فبوجودها يوجد الحكم، وفي انعدامها ينعدم الحكم، ولابد أولاً من (تنقيح المناط)، وهو البحث عن (العلة)، ويكون ذلك بطريقة (السبر والتقسيم) في (الأصل) لنقله إلى (الفرع)، وذلك بواسطة تقسيم (النص) وإقصاء ما لا ينبني عليه الحكم مما لا يعد علة، حتى تبقى العلة المعتبرة في الحكم، وبالتالي نكون قد توصلنا إلى تنقيحها وإخراجها وبيانها، لننتقل بعد ذلك إلى تحقيق تطبيقها في (القضية – الفرع) المراد تنزيل الحكم عليها، و(تحقيق المناط) هو بالتحقق من تطبيق النص على الجزئيات، بمعنى إثبات العلة في الفرع، أي إثبات وجودها في الفرع لكي نقوم بالقياس وننقل حكم الأصل إلى الفرع بإثبات وجود هذه العلة الجامعة التي يدور عليها الحكم أو تطبيق النص، وعليه فيكون تنقيح المناط في الأصل وتحقيق المناط في الفرع، والأسباب هي مناط الحكم، فلابد إذن من تنقيح الأسباب وتحقيقها وبيانها عبر (التسبيب).

طرق التسبيب

تختلف الطرق باختلاف القضايا نوعاً وطولاً، ولها ثلاث طرق، أولها المختصرة، وهي التي في القضايا التي لا غموض فيها ولا طول، لأن الحكم واضح المنطلقات وظاهر الدليل، والثانية المتوسطة، وهي التي تكون في القضايا الغالبة حيث تذكر صفة ثبوت الواقعة أو نفيها، سواء أكانت إقرارا أم شهادة أم يميناً أم نكولاً، مع ذكر الحكم الكلي مع دليله، والثالثة المطولة، وهي التي يذكر فيها كل التفاصيل الواردة ما يؤثر في الحكم.

ضوابط التسبيب

لابد لتسبيب الأحكام القضائية من ضوابط تحدها فلا تنقص منها ولا تزيد، وأهمها بيان المستند الشرعي والقانوني للحكم، والمستند يتكون من ركنيْ الواقع والنص، وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فالتصور أولاً فالحكم بالشريعة والنظام ثانياً، ومن ذلك مثلاً في الأحكام الجزائية على القضايا الجنائية لزوم بيان دليل التحريم والتجريم، فقد يكون محرماً شرعاً أو نظاماً ولا يكون مجرماً، كمسائل العبادات التي لا يلزم من كون بعضها واجبة بأن يجرم تاركها، أو كون بعض الأقوال أو الأعمال محرمة بأن يجرم فاعلها، فقد تكون من باب التدين الذي بينه وبين ربه وحسابه يوم يلقاه، وكذلك المسائل الخلافية إن كانت غير ذات شأن عام ملزم التقيد به ولو خالف رأيه لمصلحة عامة، فلا يجوز الحكم عليه إلا بما يعتقده سواء أكان مجتهداً أم مقلداً، وهذا مثل المرأة التي تكشف وجهها فلا يجوز تعزيرها لذلك لوجود الخلاف الفقهي السائغ في المسألة، لكن لو قنن ولي الأمر تغطية الوجه في أماكن معينة فيصبح من تقييد المباحات المبني على مصلحة عامة معتبرة يقدرها ويقررها ولي الأمر، ومثله مسألة صلاة الجماعة حيث لا يجوز تعزير الذي لا يرى وجوبها وإن كان القاضي يرى الوجوب ما لم يكن فاتحاً لمحله وقت الصلاة أو مخالفاً للنظام العام، وأما أن يساق الناس من بيوتهم نحو المساجد أو حتى الجماعات وقد يعتقدون بعدم وجوبها فلا يسوغ ذلك شرعاً فضلاً عن مقاضاتهم ومعاقبتهم، وبهذا لو ذكر القاضي تسبيبه لعُلم أنه مجانب للصواب فيها، ولأدرك المعترض ومن بعده المدققون في محكمة الاستئناف هذا الخلل، وعليه فلا يجوز أن نحاكم الناس جنائياً بناءً على ما نعتقده، وإنما بناء على ما يعتقدونه في المسائل الفقهية الخلافية، وكذلك في مسائل قضائية متعددة حيث لا يجوز إلزام المتقاضين بما يرجحه القاضي ما دامت المسألة تتعلق بهم سواء أكان في مقابل المدعي العام أم في رأي الطرفين إن كانت في الحق الخاص، إلا في حالة اختلاف الطرفين في الترجيح كمسائل البيوع فتكون الحال حسب ظروف العقد المكانية والزمانية ونحوهما فتكون مرجحة، ومثله العادة المحكمة والعرف السائد في شؤون المعاملات، إضافة إلى ضابط التسبيب المتعلق بكفايتها بحيث تكون الأسباب كافية ومسوغة ومبررة للحكم، كما قال ابن عاشور: (فليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً لعود المنازعة، ومقنعاً في ظهور كونه صواباً وعدلاً)، ولكن بلا إطناب، مع ترتيب التسبيب حسب الوقائع وبنائها وأثرها في الحكم، ويفضل في نظري أن تكون الأسباب الواقعية قبل الشرعية لكونها محل الحكم، وكذلك يستحسن لدي أن تتقدم الأسباب على الحكم لكونها أساسه، مع تناسق فيما بين التسبيبات وتوافقها وعدم تعارضها، مع توازنها لتغطية جميع جوانب القضية بحيث لا يذكر أسباب التجريم ثم يغفل أسباب التخفيف أو التشديد، على أن يكون التكييف قبل التسبيب، فترسم الصورة أولاً فتبين مسوغاتها ثانياً ثم يأتي الحكم ثالثاً، مع المراعاة للصياغة القضائية المعروفة بفنيتها وصبغتها المهنية عبر لغة عربية فصيحة وألفاظ جزلة ومصطلحات شرعية وقانونية مناسبة، مع تسليم في الفروق الفردية بين القضاة، ولكن هناك حد أدنى منها لا يسوغ النزول عنه، مع التقدير لظروف القضاة وكمية القضايا التي ينظرون فيها..

والله سبحانه الموفق وهو المستعان وعليه التكلان.

المصدر: جريدة الرياض  28  جمادى الآخرة 1432 هـ الموافق 31 مايو 2011م .

المصدر : -