رسالة من وافد لم يفد!
-
نظام الجنسية الجديد يتيح التجنيس لأي راغب من خلال النقاط، إلا أنه ما زالت هناك أوضاع إنسانية خاصة ربما تحتاج إلى إعادة نظر، وخاصة أن اهتمام المملكة بحقوق الإنسان ملموس
إنها قضية إنسانية بالدرجة الأولى. لا أظنها تخفى على أحد، فربما اقترب كثير منا من هذه القضية عبر صديق أو زميل، أو من خلال احتكاك شخصي، إنها ما تزال قضية مؤرقة لأصحابها فهم سعوديون في الواقع.. وافدون على الورق!
التقيتُ بمواطن عربي مسافر على الطائرة ذاتها التي كنت أستقلُّها، فقادتنا ساعات الرحلة الطويلة إلى تجاذب أطراف الحديث الذي تشعب كثيراً بعد أن كنت أظنه سعودياً، فاتضح لي أنه مقيم عربي متزوج من مواطنة سعودية. تحدث لي بحرقة عن معاناة بناته قائلاً: لا أريد الجنسية السعودية لشخصي، أريد فقط أن تُمنح لبناتي اللاتي يحملن جنسيتي، على الرغم من ولادتهن في المملكة وعدم انتمائهن فعلياً لوطن سواها.
تذكرت هذه الموقف بعد أن وردتني رسالة طويلة ومؤثرة من شاب يعيش ظروفاً مماثلة سببها قضية الجنسية، إذ يقول: أكتب لكم هذه السطور وأنا أوشك على إتمام السابعة والعشرين من عمري، ولم تتنفس رئتاي هواءً غير هواء الوطن الذي ما تزال أنظمته تعاملني فيه على أنني (وافد) رغم أنني مولود في المملكة العربية السعودية، ولم أخرج منها سوى مرة واحدة في زيارة سريعة لدولة خليجية مجاورة، ونُظم الجوازات من الشاهدين!
ويؤكد الشاب أنه رغم كل المعاناة فإنهم لم يلقوا من المملكة حكومة وشعباً إلا كل خير، ويكفي أنها استقبلت آباءهم، مشيراً أن والده من مواليد المملكة العربية السعودية لم يغادرها بتاتاً، ولكن رغم ذلك لا تفرق الأنظمة بينه وبين أي وافد آخر وطئت قدماه أرض المملكة حديثاً، سواء في الحقوق أو الواجبات، رغم أن جدّه قدم من موطنه العربي إلى أرض المملكة مهاجراً طلباً للعلم والجوار، ويقول إن أولاده (وافدون) في نظر القانون، على الرغم من أنهم من الجيل الرابع المولودين في المملكة، “ولا أحصي كم مرة حملت أحدهم مريضاً، أو في حاجة إلى عملية جراحية عاجلة، وعند أقرب مستشفى يخبرني موظفو الاستقبال بأني (وافد ابن وافد) ولا يحق لي العلاج أسوة بالمواطن السعودي”، مضيفاً أن هذه المعاناة بدأت منذ الطفولة، حيث كان زملاؤه في المدرسة يسألونه لم هو ليس سعودياً؟ وكيف يعيش هنا وهو منتسب إلى هذه الجنسية؟ قائلاً: حين تخرجت في الجامعة طُلب مني-بحسب نظام الجوازات- أن أبحث عن (كفيل) آخر غير والدي، لأنني بلغت سن العمل ولا يجوز أن أبقى تحت كفالته إلى ما لا نهاية! وكان عليّ أن أبحث عن كفيل آخر لأعمل لديه (عاملاً منزلياً) تخول له الأنظمة أن (يسفرني) في أي وقت ما يشاء حين لا تعجبه خدماتي، رغم أنه لم يستقدمني إلى المملكة أصلاً، ومع ذلك يُخوّل بترحيلي دون أن يكون لي أدنى حق في الاعتراض أو البحث عن كفيل آخر.. والخلاصة أنني (وافد) على الورق (سعودي) في الواقع، فلساني وعاداتي ومظهري وبيئتي وسيارتي واستهلاكي، وحتى تفكيري كلها سعودية، أعرف عن السعودية ونظامها ووزاراتها ومسؤوليها ومناطقها ومدنها وقراها وشوارعها وأزقتها ما لا يعرفه كثير من السعوديين، ولديّ ما يثبت أنني (وافد) صالح، قد أتفوق على كثير من المواطنين في الولاء الحقيقي بعيداً عن الشعارات، فليست لدي مشكلة أمنية، ولا سوابق، ولا حتى مخالفات مرورية، ولست هارباً من كفيلي، أحافظ على المال العام، أعلّم أولادي الولاء لهذا البلد.. فحين دخل ابني المدرسة قال لي في أول أسبوع: زملائي يسألونني هل أنا سعودي يا بابا؟ وحين صدقته الجواب، كذّبني وأصر على سعوديته، فلم أشأ أن أكدر عليه الحلم بالانتماء إلى وطن لا يعرف غيره!
ويعرج على مواهبه وتسلّمه عدة جوائز تكريمية من الأمير مقرن بن عبدالعزيز والأمير عبدالعزيز بن ماجد، “حيث تتنوع من الإنجليزية التي أحمل فيها مؤهلاً جامعياً مع مرتبة الشرف، إلى الحاسب الذي أحمل فيه شهادة دولية في الشبكات مع أنه ليس أكثر من هواية، إضافة إلى لغتي العربية الأم، ومن المفارقات أنني عملت في تدريب الشباب السعوديين على العمل في القطاع الخاص عبر برنامج التدريب المشترك، ووجدت نفسي بعدها بأيام في معضلة مع لجنة السعودة فتركت العمل. والآن لا أستطيع مراجعة دائرة حكومية، ولا المرور بنقطة تفتيش، وأنا أرتدي الزي السعودي، لأني قد أُتهم بمحاولة انتحال شخصية المواطن، وقد حصلت معي ذلك بالفعل أكثر من مرة.. إن الأنظمة تصر على معاملتي كالوافد الذي يأتي لمدة محددة، ومع ذلك أنا لا أطالب بمنحي الجنسية، ولا أقترح هنا منحي الإقامة الدائمة، فكل ما أطمح إليه هو “تفرقة” محمودة من خلال سهولة التنقل من وإلى المملكة دون الحاجة إلى الكفيل.. فمنّا من انتقل بعض أفراد أسرته إلى الخليج، لكن لا تلك الدول سهلت لنا دخولها ولا أنظمة المملكة عاملتنا معاملة خاصة من حيث تأشيرات الخروج والعودة.. نأمل بـ”فك الارتباط” بين رضا الكفيل ومعاملاتنا الشخصية البحتة، فلا يستطيع أحدنا أن يحك رأسه إلا بـ”تعريف من الكفيل” لا رخصة قيادة ولا حساب مصرفي ولا سفر ولا زواج ولا نقل ملكية سيارة إلا بإذنه، فلم أحوّل ريالاً واحداً إلى الخارج بل أصرف كل دخلي في المملكة محافظاً على مقوماتها ومسهماً في دعم اقتصادها.. وأزيدك أن أبناء العائلة حين يكبرون ويسافرون للعمل في الخارج ـ بعد تعذر إقامتهم النظامية في المملكة ـ يحولون الأموال إلى أسرهم المقيمة في المملكة من دول غنية في أوروبا وأميركا والخليج، ومع ذلك نعمل كوافدين لم يفدوا أصلاً! إنني لا أستطيع الوفاء ولو قدمت نفسي فداءً لكل أصدقائي السعوديين -ولا أستثني أحداً- فهم يتفهمون وضعي تماماً، ويقدّرون صعوبة الوضع ولو بالتعاطف النفسي”.
أردت هنا أن أنقل معاناة هذا الشاب، على الرغم من أن نظام الجنسية الجديد يتيح التجنيس لأي راغب من خلال النقاط، إلا أنه ما زالت هناك أوضاع إنسانية خاصة ربما تحتاج إلى إعادة نظر، وخاصة أن اهتمام المملكة بحقوق الإنسان ملموس. ولا أنسى هنا الإشارة إلى الجهود الموفقة التي تبذلها الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان التي أشارت في تقاريرها لهذه المشكلة. ونتمنى أن تجد هذه المشكلة الإنسانية طريقها لحل وسط من خلال كفالة الدولة ذاتها لهؤلاء المولودين دون الحاجة إلى الكفيل الفرد، مما يتيح لهم ولأبنائهم مستقبلاً أكثر استقراراً، وخاصة أن هذا الموضوع يمثل ضغطاً نفسياً واجتماعياً عليهم أكثر من أي شيء آخر، فمواطنتهم الفعلية باتجاه وجنسيتهم باتجاه آخر!
المصدر: جريدة الوطن 22 رجب 1432 هـ الموافق 24 يونيو 2011م
المصدر : -