علي الشريمي - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1207

جرت العادة أن يكون موضوع كرة القدم موضوعا رياضيا له زواياه الخاصة، لكن ينبغي أحيانا أن نتأمل كرة القدم كلعبة للتأمل في الواقع الثقافي والحقوقي. يقول الشاعر محمود درويش: “إن كرة القدم أشرف الحروب الإنسانية، وإنني أشعر بمتعة لا متناهية لمشاهدتها، وأنا من جهتي أفضل متابعة مباراة في كرة القدم حتى ولو كان من سيجيء الأمسية هو المتنبى”.

إنني أتساءل: ما الذي يجعل لعبة كرة القدم تحظى بذلك الهيام الجنوني من كافة الشعوب في أرجاء المعمورة؟ كيف استطاعت البشرية التي لم تجتمع على دين ولا مذهب ولا نظام اقتصادي أو سياسي ولا لغة ولا ثقافة موحدة أن تجتمع على عشق هذه الأيقونة البلاستيكية الساحرة؟.

يكمن السر الأساس في هذا الهيام أنها تحقق للبشرية حلمها الإنساني في تحقيق العدالة على الأرض، حيث يجلس الألوف من البشر في مدرجات ملعب مكشوف، ويتابع الملايين على شاشات التلفزة لعبة محكومة بمنظومة علنية من القواعد والقوانين متفق عليها بين الجميع، ويخضع لها الجميع بنفس الدرجة، وتطبق فيها القوانين بكل صرامة من قبل حكم الساحة، ويكون فيه الفوز للأصلح فقط، فهنا لا تنفع محسوبية ولا تجدي واسطة.

في ساحة الملعب تذوب كل الفوارق العنصرية، ويكون الجميع سواسية أمام العدالة الكروية، بصرف النظر عن الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو اللغة، فتتحقق الإنسانية الممثلة فيما يقدمه اللاعب كإنسان وكموهبة، يقف في الساحة الخضراء إنسانا حرا كاملا متساويا مع كل إنسان آخر، مع كل لاعب وكل متفرج في طقس كروي مثير.. نشاهد الفريق الإنجليزي يلعب بحارس مرمى خليجي عماني الجنسية اسمه “علي الحبسي” وهو يصد كرة خطيرة كانت تهدد مرماه، فيهتف له الجمهور الإنجليزي الحاشد ملوحا بالأعلام صارخين: حبسي.. حبسي!. حقا إنها المستديرة الساحرة، التي حققت فلسفة العولمة في كامل أبعادها، ولم يعترض عليها أحد، ولم يخش أحد من فقدان الهوية، وأقبل الجميع على هذه العولمة الكروية دون توجس، إذ أبطلت مفهوم “الخصوصية” التي نطنطن بها على الدوام، فلم يقل أحد أن نظام الاحتراف مثلا قد يناسب ألمانيا ولا يناسب السعودية.

وها هو النظام الكروي العالمي الجديد يقدم لنا مفهوما متحررا للمواطنة وحقوق الإنسان، ففي كأس العالم 2006 بألمانيا رأينا فريق ساحل العاج يحقق على أرض الملعب وحدة وطنية لا تعرفها بلاده التي تعاني من حرب أهلية، ولكن أمام إنسانية كرة القدم نجد ساحل العاج يتوحد بشطريه المتنازعين في مساندة فريقه الدولي فيتحقق بذلك السلام، لتقدم لنا كرة القدم أنموذجا رائعا للصراع الحضاري السلمي. ناهيك عما تقدمه المستديرة لعشاقها من جرعات الفن والجمال، التي تجسدت أخيرا في “ميسي”، وهو لاعب يُلهم بحركاته وهجماته الملايين، يعطي الباصات، ويرفع الكرة، و”يرقّص” اللاعبين، “مع أن الرقص مخالف للضوابط” ويسجل الأهداف.

نعم.. ساحات الملاعب العالمية قد لا تخلو من مظاهر العنصرية البغيضة، ولكن بالمقابل هناك الكثير من الإجراءات الصارمة لمكافحتها، ففي اليوم العالمي لمكافحة العنصرية الذي تم الاحتفال به قبل شهرين، كان شعاره قد حمل عنوانا رياضيا “ركل العنصرية خارج الملعب”، ولكن هذا الوباء اللعين امتد إلى الملاعب السعودية منذ سنوات، آخر حلقاته كانت الأسبوع الماضي في الهتافات العنصرية المتبادلة بين فريقي الاتحاد والهلال، وقد أصبح ظاهرة مع غياب القوانين التي تجرم وتكافح السلوك العنصري، وكذلك مع افتقادنا للمنظومة الحقوقية في السلك التعليمي ليكون السؤال: أين هي المناهج الحقوقية التي تنبذ العنصرية والموعودين بها منذ سنوات؟ أين الأنشطة الحقوقية اللاصفية؟ أين هي الأجهزة الحكومية التي تفاعلت مع قرار الملك عبدالله بتاريخ 4/ 11/ 1431 في وضع استراتيجية عامة لنشر ثقافة حقوق الإنسان ونبذ العنصرية في كافة قطاعات الدولة؟.

المصدر : جريدة الوطن - 10 رجب 1434هـ الموافق 19 مايو 2013م