محمد بن سعود الجذلاني - جريدة الرياض

عدد القراءات: 10594

كم يحزنني كثيراً ويؤسفني، حين أطلع على أي إخفاق أو خلل في الوعي والمعرفة الحقوقية عند أحد المتخصصين، لاسيما إن كان ذلك مما يمسّ حقوق الناس وحرياتهم وما كفلته لهم الشريعة الإسلامية وكل النصوص النظامية من حقوق.

يرد أحياناً في بعض لوائح الاتهام أخطاء مادية تتطلب من القاضي زيادة احتياط ويقظة حتى لا تلتبس عليه، وهي في الحقيقة ليست سوى نتيجة ضعف كفاءة أو قلة حرص من أعد لائحة الاتهام، وإذا لم يتنبه لها القاضي، فإنها قد توقعه في الخطأ في الحكم

ويتعاظم هذا الإخفاق أو النقص سوءاً حين يصدر عن موظف رسمي ممن أنيط بهم نظاماً حراسة تلك الحقوق والحريات، وبالتالي فيفترض في ذلك الموظف كونه من المتخصصين أصلاً في هذا المجال من واقع تأهيله العلمي وخبرته العملية .

وإذا كان الخطأ أو الخلل الذي وقع فيه ذلك الموظف مما لا يُعذر مثله بجهله أو الغفلة عنه .

وخلال خبرتي السابقة في القضاء التي كان جزءاً منها في القضاء الجزائي في ديوان المظالم، أذكر أنه يمر بي أحياناً بعض لوائح الاتهام التي ترد إلينا من هيئة الرقابة والتحقيق، وألاحظ عليها أنها تؤسسُ الاتهام على قاعدة (الأصل في الإنسان التهمة) وليس على القاعدة الصحيحة (الأصل في الإنسان البراءة) ويظهر هذا الخلل جلياً من خلال عدة إشارات ترد في بعض تلك اللوائح من أمثلتها :

أولاً : إيراد بعض الأدلة التي يُقصد منها إثبات إدانة المتهم، وعند تأمل هذه الأدلة نجدها ليست سوى أفعال مباحة لا محظور فيها، ولا يمكن تحويل الفعل المباح إلى دليل للاتهام، ومن صور ذلك :

– اعتبار وجود أكثر من حساب بنكي للمتهم دليلاً على فساده، وثبوت التهمة المنسوبة إليه . وليس ذلك بصحيح ؛ إذ إن الشبهة أو الدليل على التهمة إنما يكون في محتوى ذلك الحساب البنكي من مبالغ مالية بعد التحقق من مصادرها وأنها محرمة أو مشبوهة، أما أن يكون مجرد وجود أكثر من حساب بنكي للشخص دليلاً على التهمة، فهذا لا يمكن القبول به، ومن منا من ليس له أكثر من حساب بنكي ؟!

– ومن ذلك مثلاً اعتبار تبادل الزيارات أو التعاملات المالية بين اثنين من المتهمين دليلاً على إثبات التهمة المنسوبة إليهما مثل الرشوة، بينما في بعض هذه الحالات يتبين أن تلك العلاقات كان لها سبب ثابت مثل وجود صداقة قديمة بينهما معروفة عند الناس ومستفيضة، ويكون سببها إما جواراً في سكن أو زمالة دراسة أو زمالة عمل، أو قرابة أو مصاهرة، وأحياناً تكون هذه التعاملات أو العلاقات بينهما قبل مدة طويلة من التحاق أحدهما بالوظيفة.

فمثل هذه التصرفات التي لها تفسير طبيعي وتخريج صحيح، من الصعب توظيفها لتكون أدلة على تهمة بجريمة. إذ الأصل فيها هو السلامة.

ثانياً : من أسوأ صور الخلل في لوائح الاتهام – وهو قليل لكن يحدث أحياناً – أن يُطالب المتهم بدليل يثبت براءته مما نُسب إليه من تهمة! وهذا يقلب القاعدة العامة في أن الأصل في الإنسان البراءة، كما يقلب قاعدة القضاء، بأن البينة على المدعي وليست على المدعى عليه.

وأذكر في بعض تلك اللوائح أنه جاء فيها : (إن إنكار المتهم ليس إلا قولاً مرسلاً لا دليل عليه) ! وفي بعضها عبارة : (إنكار المتهم ليس عليه دليل، إنما يقصد به التنصل مما نُسب َ إليه) !.

ومثل هذه العبارات يمكن قبولها حين تكون هناك أدلة أو قرائن على إدانة المتهم، ولا يكون عنده ما ينفي تلك الأدلة، أما في حال خلو التهمة من أي أدلة معتبرة، فلا يمكن أن يكون المتهم مطالباً بدليل يثبت فيه براءته أو يثبت صحة إنكاره.

ثالثاً: يرد أحياناً في بعض لوائح الاتهام أخطاء مادية تتطلب من القاضي زيادة احتياط ويقظة حتى لا تلتبس عليه، وهي في الحقيقة ليست سوى نتيجة ضعف كفاءة أو قلة حرص من أعد لائحة الاتهام، وإذا لم يتنبه لها القاضي، فإنها قد توقعه في الخطأ في الحكم، من ذلك مثلاً : أن يذكر ضمن أدلة الاتهام، إقرار المتهم المصادق عليه شرعاً، وبالرجوع إلى ملف القضية يتضح أنه لا وجود أصلاً لإقرارٍ للمتهم، بل إنكار، أو يوجد إقرار غير مصادق عليه شرعاً، أو يكون مضمون الإقرار غير مطابق للتهمة، مثل الإقرار بجزء من التهمة أو بشيء آخر مختلف.

وحقيقة فإنه لا يحضرني الآن، ولا يمكن لي استقصاء واستيعاب كل ما يمكن أن يقع في لوائح الاتهام من أخطاء، ولكن أردت فقط التنويه والتنبيه، على أهمية وضرورة رفع مستوى التأهيل والكفاءة في المحققين وممثلي الإادعاء العام، والتأكد تماماً من استيعابهم التام لكل مبادئ القانون والقضاء الجنائي والجزائي، ومعرفتهم الشاملة بكل ما يتعلق به من أصول الإجراءات.

وإذا كان الحديث هنا عن جهات التحقيق والدعاء، فإن مما ينبغي الإشارة إليه أيضاً، أن هذه الأخطاء المشار إليها، تقع أيضاً من بعض القضاة، في أحكامهم القضائية، وهي ما يزيد في عظم المسؤولية على قضاة محاكم الاستئناف في بذل جهود مضاعفة، لتمحيص وتدقيق مثل هذه القضايا، لأهميتها وخطورتها، كونها تتعلق بحقوق الناس وحرياتهم وأعراضهم، وأنا هنا لا أتكلم جزافاً، إنما من واقع تجربة، وفي ظل شواهد مادية موجودة عندي، وقع فيها بعض هذه الأخطاء، التي لولا فطنة وعلم قضاة محكمة الاستئناف في اكتشافها وتصحيحها، لذهب ضحيتها أبرياء.

وختاماً أسأل الله أن يوفق قضاءنا وقضاتنا وكل إداراتنا المعنية لإحقاق الحق، وبسط العدل، ورفع الظلم، ونصرة المظلوم، وردع الظالم، وحفظ الحقوق، آمين.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

*القاضي السابق في ديوان المظالم

والمحامي حالياً

المصدر : جريدة الرياض -