الحياة الكريمة بعد التقاعد
علي الجحلي - جريدة الاقتصادية
عاش رجال كانوا من كبار المسؤولين على مبالغ تافهة طيلة حياتهم بعد التقاعد، لأنه لم يشملهم الأمر الذي يساوي بين المتقاعد ومن هم على رأس العمل. الرعيل الأول الذين بنوا وكدوا وصنعوا شيئاً من لا شيء، أولئك الذين كانوا يحصلون على رواتبهم على هيئة ملح أو أغنام بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من العمل الشاق.
شكوى هؤلاء لم تصل إلى أذن تصغي وتنهي همومهم وتتفهم ما يعيشونه من شظف بسبب توقعات أبنائهم ومعارفهم وضيق ذات يدهم. وارى الكثير منهم الآن التراب، وأصبحوا ذكرى عطرة كلما نسمع اسماً أو خبراً عنهم ندرك تضحياتهم.
يكاد مراقبو الشأن العام يجمعون على أن التراجع مستمر في الأداء في المؤسسات والوزارات والهيئات العامة، وأن العلاقة بين المسؤول والمجتمع مبتورة. يحلف المسؤول المهيب أنه يدفع كل شهر ما يقارب 8000 ريال رواتب فقط للخدم والسائقين والعمال. تجده في اليوم التالي يتحدث عن ثلاثة آلاف ريال كحد أدنى للأجور، أو يطالب بأربعة آلاف ريال للمتقاعد كتعويض يضمن له حياة كريمة، حالة فصام تجعلنا نعتقد أن هذا المسؤول يعيش في أمريكا أو أوروبا، حيث لا مسؤولية على المتقاعد سوى عن نفسه. نسي المنظرون والمشرعون أن المتقاعد يصرف على أبنائه ويزوجهم ويشتري لهم السيارات مثلما يفعلون تماماً.
أذكر أنني حين دربت بعض الشباب الذين يعملون في شركات تمنحهم رواتب صافية قدرها 5500 ريال، طالبتهم بأن يوفروا أي مبلغ عملاً بالحكمة القائلة: ”اصرف ما لا يمكن توفيره” بعكس المفهوم السائد ”وفّر ما لم تصرفه”. فوجئت بتقسيمة تعطي الدلالة على أنه لا يمكن لأولئك الشباب أن يحققوا إنجازاً مثل الزواج بتلك المبالغ البسيطة.
يسكن الشاب مع مجموعة ويضطر لدفع 1000 ريال مقابل الإيجار، و3000 ريال مقابل قسط السيارة وتكاليف الوقود والصيانة لها، وما يقارب 1000 ريال للطعام الذي تبيعه عليهم الشركة في الغداء ويضطرون لشرائه أو طهيه في الليل، تبقى 500 ريال فهل تغطي تكاليف الجوال أم الملابس أم فواتير الكهرباء أم الطوارئ؟
هذا في حالة شاب ليس عليه أي مسؤوليات سوى نفسه. فإذا قرر الزواج، فمجتمعه يقول له: ادفع مبالغ تصل إلى 100 ألف ريال قبل أن تتمكن من التفكير في ليلة الدخلة التي ستكون بداية رحلة معاناة، خصوصاً إذا لم تكن العروس موظفة. هذا الشاب سيلجأ أول ما يلجأ لأبيه وأمه، وهما موضوع حديثنا هنا.
أتحدى أي واحد من أعضاء مجلس الشورى أو أي مسؤول مهما كان مكانه أن يجد لي شخصاً يعيش الكفاف على مبلغ 4000 ريال الذي يناقشونه ويمعنون في فلسفته على أنه المخرج الحقيقي للمتقاعد، والضامن لحياة كريمة في هذا العصر. حتى وإن كان المتقاعد يسكن في بيت يملكه ويستخدم سيارة مسددة القروض ولا يستخدم الجوال إلا في الطوارئ، ويحمل بطاقة تمنحه العلاج المجاني. لكن هل هذا وضع كل المتقاعدين؟
أطالب أن يكون أعضاء مجلس الشورى أكثر شعوراً بمعاناة الناس خصوصاً المتقاعدين منهم، لأنهم يحتكون بهم بشكل يومي. ولأنهم أقرب ما يكونون إلى سن التقاعد، وليس عليهم التزام يفرض عليهم التراجع عن قول كلمة يؤمنون بها. كما أنهم لا بد أن يوصلوا معلومات المزايا التي يحصل عليها المتقاعد في العالم إلى متخذ القرار. لا بد أن يطالبوا للمتقاعد والمتقاعدة السعوديين بأفضل المزايا، لأن الدولة هي التي تقود الاقتصاد وتساهم في دعم كل مكوناته، كما يعلم الجميع.
أين نحن مما يحصل عليه المتقاعد في دول تمنحه تخفيضاً في وسائل النقل العام والطائرات والقطارات بل وتسمح له باستخدام بعضها دون مقابل؟ أين نحن من الدول التي تعفي المتقاعدين من الضرائب والرسوم على كل الخدمات سواء الكهرباء أو المياه أو الهاتف؟ أين نحن من الدول التي تمنح رخص القيادة وجوازات السفر بدون رسوم، وتخفض الرسوم على المخالفات للمتقاعدين؟ أين نحن من الدول التي تلزم الجهة التي يتقاعد منها الشخص بتوفير التأمين الصحي والسكن بمبالغ رمزية للمتقاعدين؟ بل والأدهى أين نحن من الدول التي يستمر فيها منح المتقاعد العلاوة السنوية حتى بعد التقاعد؟
يستحق المتقاعدون السعوديون أن يعاد النظر في أحوالهم من خلال تقديم مجموعة من المزايا مع قرار التقاعد، مثل تسليم القرض المستحق بغض النظر عن الترتيب العام، وتقديم التأمين الصحي الشامل للمتقاعد وعائلته، وإلزام الجهات التي يراجعها المتقاعدون بإعطائهم الأولوية عند المراجعة وإلغاء بعض الرسوم عنهم، وتخفيض رسوم التذاكر والتعليم الخاص لأبنائهم، الأهم ألا يقل الراتب الذي يحصل عليه المتقاعد عن عشرة آلاف ريال، لأن الواقع يقول: إن التزامات المتقاعد المالية تزيد بعد التقاعد.
المصدر : جريدة الاقتصادية - 6 صفر 1435 هـ الموافق 10 ديسمبر 2013م