بندر خالد الهويش - جريدة الاقتصادية

عدد القراءات: 1193

واجه العالم في منتصف عام 2008 نقصا شديدا في عرض السلع الغذائية الأساسية مما أدى إلى ارتفاع حاد في الأسعار، الأمر الذي أجبر الدول المنتجة ذاتها على الامتناع عن تصدير كميات كبيرة من محاصيلها لموازنة العرض والطلب في الداخل. وكان لذلك أثر بالغ على المستهلك خاصة في الدول المستوردة، ولا سيما في دول الخليج. ومن هذا المنطلق، وفي عام 2009 تحديدا، تم الإعلان عن مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي في الخارج لتحقيق الأمن الغذائي، حيث تستورد المملكة ما لا يقل عن 85 في المائة من احتياجاتها، فضلا عن وتيرة الاستهلاك التي تزيد على 8 في المائة سنويا (بمعنى سيتضاعف إجمالي الاستهلاك في أقل من سبعة أعوام عن مستوى استهلاك العام الحالي). وأخيرا أنجزت وزارة الزراعة والثروة الحيوانية الشهر الماضي لائحة تقديم التسهيلات الائتمانية والتمويل الميسر للمستثمرين السعوديين من خلال صندوق التنمية الزراعي في إطار المبادرة. وفيها استهدفت الوزارة 31 دولة في أربع قارات لتنفيذ المبادرة (11 في آسيا، 10 في إفريقيا، 6 في أوروبا، و4 في أمريكا). ولمن خاض تجربة رسم الأطر الاتفاقية بين الحكومات لا يستغرب من طول الفترة المستغرقة لإصدار اللائحة آخذا في الاعتبار إجراء لقاءات واجتماعات ثنائية مطولة مع الدول المستهدفة. إلا أنه من خلال قراءة بعض الضوابط والشروط لتمويل المستثمرين نجد أن حجم المخاطر أثناء تنفيذ مشاريعهم يحتاج إلى دعم ”نوعي” يحمي تلك المشاريع من أي اضطراب أو تغير مفاجئ من مواقف الدول المضيفة. من المفهوم أن المبادرة تستهدف الممارسين للأنشطة الزراعية مستبعدة المستجدين في هذا المجال، حيث إن الخبرة ستساهم في تقليل نسبة تعثر المشروع، إلا أن هناك مخاطر لا يمكن أن يتحكم فيها المستثمر مهما كان حجمه ومن أهمها ”مخاطر الدولة”، ”المخاطر القانونية والتشريعية” و”مخاطر الائتمان” (صفحة 23 من اللائحة). طبيعة هذه المخاطر جعلت من الشروط المتعلقة بالضمانات التي يقدمها المستثمر للحصول على القرض تعتبر – حسب وصف بعض المستثمرين – صعبة. وفي الوقت ذاته يجب أن نتفهم طبيعة موقف صندوق التنمية الزراعي لحماية أموال الدولة.

الهدف من مقال اليوم طرح فكرة مبتكرة تم تنفيذها في مجال التنمية – عبر المؤسسات والمصارف الدولية – ربما تكون أداة حماية للاستثمارات السعودية ودول الخليج في الخارج. فقطر على سبيل المثال لديها برنامج وطني للأمن الغذائي ربما تستفيد من نفس الفكرة. الفكرة رغم بساطتها إلا أنها فتحت آفاقا جديدة في عالم التنمية وأصبحت مركز اهتمام العاملين في هذا المجال لتطوير الفكرة وتطبيقها على نطاقات واسعة.

طبعا لفهم أبعاد الفكرة ودورها الكامن في تنفيذ المبادرة، لا بد من مقدمة تشرح للقارئ أبرز التحديات التي تواجه الدول النامية، لأنها تشكل أغلب الدول المستهدفة في المبادرة. عموم هذه الدول تواجه مشكلات مزمنة في هيكلها الاقتصادي ما جعلها في حاجة شبه مستمرة للحصول على حزمة مساعدات مالية من المؤسسات الدولية لتسيير مصروفاتها ومن أبرزها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنوك تنموية إقليمية أخرى. ونظرا لحجم المساعدات المقدمة من صندوق النقد الدولي تحديدا، يقوم الصندوق بوضع شروط تتعلق بإصلاح السياسة الاقتصادية في الدول المقترضة، ومن أهم تلك الشروط الالتزام بعدم تجاوز سقف معين أثناء الاقتراض من جهات أخرى، إلا إذا كانت تلك القروض ميسرة ومنخفضة التكاليف. هذا الشرط بالرغم من أهميته إلا أنه يشكل ضغطا كبيرا، خاصة على الدول الأكثر فقرا ودينا، وبالذات تلك التي ترتبط بقروض سيادية مع صندوق النقد الدولي. من جهة أخرى تسعى مؤسسات التمويل والمصارف الدولية (على الأقل بعضها) في ابتكار وسائل تمويل منخفضة التكاليف تتناسب وطبيعة المشاريع التنموية ذات عوائد مالية منخفضة بحيث لا تشكل ضغطا ماليا – قدر الإمكان – على ميزانيات تلك الدول من جهة، بالإضافة إلى حرصها على عدم تجاوز سقف الاقتراض المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي. من هذا المنطلق نشأت فكرة ”Loans buy-down” التي تعتمد على تحمل طرف ثالث ذي توجه تنموي معين لتخفيض تكاليف القروض المطلوبة لتمويل برنامج ذي طابع تنموي في دولة تستحق هذا النوع من المساهمة. ينتج عن هذا التحمل قدرة الدولة المستفيدة على المزيد من الاقتراض من المؤسسة المالية بشروط تتناسب وأوضاعها. على سبيل المثال، تدير مجموعة البنك الدولي برنامج ”الشراكة العالمية للتعليم” تستفيد منه 59 دولة (إضافة إلى عشر دول قيد الانضمام) تعاني تدني مستوى التعليم، ولا تستطيع بحكم وضعها الاقتصادي وصعوباتها المالية إعطاء هذا القطاع الحيوي حقه من الاهتمام. يعتمد البرنامج على مساهمات مانحين من جهات مختلفة لتحمل التكاليف المتمثلة في نسب الفائدة (أو الهوامش الربحية والمصاريف الإدارية في المصارف الإسلامية) بحيث لا تتحمل الدولة المستفيدة غير رأس المال المقترض. وفي المقابل تلتزم الدولة المستفيدة بشروط تتعلق بحسن الأداء لضمان نتائج معينة متفقة عليها مسبقا. أصدر معهد ”Results for Development” مسودة تقرير قبل شهرين يفصل فيه آلية تطبيق مبدأ تحمل أطراف خارجية لتكاليف القروض السيادية وهو مصدر جدير بالاطلاع لمن أراد أن يتعمق في هذا المجال. هي آلية جديرة بالتأمل في تطبيقاتها المحتملة إلا أنه لا يمكن التنبؤ بمدى نجاحها، نظرا لحداثة الفكرة. وفي المقابل، فإن طبيعة تحديات دول الخليج تحتاج إلى نقلة نوعية في طبيعة الأدوات المستخدمة لتدارك أزماتها التي من أبرزها الأمن الغذائي. فباكستان على سبيل المثال، وهي من إحدى الدول المستهدفة في مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي في الخارج، واجهت تحديات جذرية في بنيتها التحتية، ومن أبرزها قطاع الكهرباء. أما بالنسبة لقطاعها الزراعي، فبالرغم من كثافتها السكانية التي تتجاوز 180 مليون نسمة إلا أن قدرتها الإنتاجية ”الكامنة” من الزراعة تتجاوز ضعف حاجتها المحلية، حسب تقرير لمنظمة الفاو (2010). السؤال الذي يطرح نفسه هل من الممكن أن تتبنى دول الخليج وتعيد تصميم آلية ”Loans buy-down” بحيث تقوم بتشكيل شراكة ذات أبعاد تخدم مواطنيها وشعوب الدول الزراعية؟ ربما بعض التفاصيل المتعلقة بباكستان كمثال ستمهد الإجابة.

ظل قطاع الكهرباء يتدهور في باكستان حتى وصل إلى حال يرى فيه المحللون أنه كان السبب الرئيس في هزيمة الحكومة السابقة لصالح حزب نواز شريف في أيار (مايو) 2013. حتى إن أبرز مساعدي رئيس الحكومة الجديدة صرح بأن أكبر تحد يواجه نواز شريف هو تقديم حلول عاجلة لتفادي تكرار انقطاع الخدمة الذي وصل في بعض المناطق إلى عشرين ساعة متواصلة متسببا في خسائر سنوية وصلت إلى 2 في المائة من إجمالي الناتج القومي. الجدير بالذكر أن الحكومة الانتقالية حاولت قبل شهر من الانتخابات الحصول على قروض مستعجلة من صندوق النقد الدولي تراوح بين 5 و8 مليارات دولار، ولم تحصل على حزمة القروض المقدرة بـ6.6 مليار إلا في أيلول (سبتمبر) الماضي. ما يعني أن قدرات باكستان في الاقتراض أصبحت مرتبطة بشروط صارمة من صندوق النقد الدولي ما يحد من قدرتها من تمويل مشاريع مستعجلة لبنيتها التحتية (متأخرات منتجي الكهرباء وحدهم وصلت لـ 5 مليارات دولار). إلا إذا استفادت من قروض ميسرة كتلك التي تعتمد على تحمل أطراف خارجية لتكاليف القروض. في ظني الشخصي مجرد الحديث عن شراكة من هذا النوع بين دول الخليج والدول الزراعية النامية لن يحمي الاستثمارات الخليجية الزراعية في الخارج فحسب، بل ستقوم الدول المضيفة بتسويق أفضل وأجدى الاستثمارات في أراضيها سعيا في تنميتها والخروج من أزماتها الداخلية.

المصدر : جريدة الاقتصادية - 19 صفر 1435هـ الموافق 22 ديسمبر 2013م