كلمة الاقتصادية - جريدة الاقتصادية

عدد القراءات: 1174

 ساءت الأوضاع المعيشية في أوروبا كلها منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية وحتى الآن. وسوء الأوضاع كان طبيعياً، لأن الأزمة لم تترك جانباً معيشياً إلا ضربته ونالت منه، أو أثرت فيه. وسوء الوضع المعيشي يختلف من بلد أوروبي إلى آخر، حسب الوضعية التي وصل إليها من جراء الأزمة، واستناداً إلى قدراته الاقتصادية. فالبلدان غير الثرية، ازدادت فقراً، والدول الثرية شهدت ارتفاعاً تاريخياً لمعدلات الفقر فيها. حيث لم تعد الأسر فيها تكتفي بالمعونات الاجتماعية الحكومية، بل توجهت نسبة متعاظمة منها إلى ما يسمى بـ “بنوك الطعام”، وهي هيئات خيرية غير حكومية، تنشط أساساً بين شرائح المشردين، الباحثين عن لقمة ولا بأس من مأوى. وهذه الوضعية يمكن قبولها في بلد نام يفتقر إلى السياسات الاجتماعية المؤسسية، لكن أن ينتشر في بلدان راشدة، فهو أمر يدعو إلى الدهشة.

في بريطانيا انتشر في السنوات الماضية هذا النوع من الإطعام، على الرغم من أن نظام الرعاية الاجتماعية البريطاني يعتبر واحداً من أفضل الأنظمة عالمياً. وهذا عزز المؤشر، بأن الأسرة البريطانية لم تعد قادرة على مواجهة متطلبات المعيشة، خصوصاً مع ارتفاع التضخم، وسياسات التقشف التي وضعتها وتنفذها حكومة الائتلاف الحالية. هذه الأخيرة نجحت بالفعل في إنقاذ الاقتصاد الوطني من أمراض اقتصادات أوروبية أخرى، لكنها في الوقت نفسه، أسهمت في اتساع حلقة الفقر فيها. وهناك فارق واسع بين الدخل والتكاليف. ووفقاً لآخر دراسة بريطانية بهذا الخصوص، فإن الأسعار ارتفعت 46 في المائة منذ عام 2008، بينما لم تزد الأجور سوى 9 في المائة منذ العام المذكور. أنتج هذا، طبقة فقراء جديدة، هي أفضل من الطبقة التقليدية الموجودة في كل الأزمنة، ولكنها محتاجة حقاً.

تتفق كل المنظمات غير الحكومية، وفي مقدمتها “أوكسفام” الخيرية الضخمة، على أنه ينبغي أن تقوم الحكومة بخطوات عملية من أجل إعادة الطبقة المنضمة حديثاً لشريحة الفقراء، إلى وضعيتها السابقة. وهذا لن يتم بالطبع بمعزل عن نمو حقيقي، يعتمد أساساً على إنفاق الأسر. والنمو في بريطانيا “كما غيرها من دول الاتحاد الأوروبي”، ليس بالأمر السهل، في وقت تجاوزت الديون في بعض الدول إجمالي ناتجها المحلي. فإذا كانت ألمانيا “أغنى البلدان الأوروبية” تسعى جاهدة لخفض ديونها، علينا أن نتخيل معاناة الدول الأوروبية الأخرى في هذا الأمر. خوف حكومات أوروبا من انهيار اقتصاداتها، جعلها تنسى بالفعل الاحتياجات الشعبية المحلية، رغم التبعات الانتخابية السلبية المؤكدة لمثل هذه السلوكيات.

هذه الحالة، أنتجت ما يمكن وصفه بـ “العنصرية الاقتصادية” في دول أوروبا الكبرى. وهي عنصرية موجهة للمهاجرين واللاجئين فيها. غير أن نسبة هؤلاء لم تزد كثيراً عما كانت عليه قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، وبالتالي فهم لم يسهموا سلباً في تبدل الأوضاع المعيشية للمواطنين المحليين. يضاف إلى ذلك، أن الدول الأوروبية “وفي مقدمتها بريطانيا” ملتزمة بمواثيق ومعاهدات دولية تكفل حقوق المهاجرين واللاجئين وفق القوانين المعمول بها. القضية برمتها لا علاقة لها بهذه الشرائح، بل بالسياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومات مجبرة، لتخفيف ضربات الأزمة الكبرى. وهذه الحكومات لا تستطيع التراجع الآن، فعلى الجميع أن يدفع ضريبة الأزمة، بمن فيهم أولئك الذين لا دخل لهم في انفجارها.

إن ما يخفف الأوضاع المعيشية في بلد كبريطانيا، وجود نظام رعاية اجتماعية راسخ منذ عشرات السنين، ولكن هذا النظام ليس مخصصاً لنشر حياة رغيدة في أوساط البريطانيين وسكان البلاد، بل وجد أساساً لسد ثغرات طبيعية في المجتمع. غير أنه بات منذ سنوات نظاماً أساسياً لتسيير الحياة.

المصدر : جريدة الاقتصادية - يوم الاربعاء ١١ رمضان ١٤٣٥هـ الموافق ٧ يوليو ٢٠١٤م