عبدالحميد العمري - جريدة الإقتصادية

عدد القراءات: 1264

خاض المجتمع السعودي طوال ما يقارب خمسة عقود ماضية، تحولات تنموية هائلة، وانتقل من مجتمع كان يغلب عليه انخفاض مستوى التعليم والاستقرار الحضري وعديد من المؤشرات التنموية الأخرى، إلى مجتمع مختلف تماما عن ذلك المجتمع السابق العهد!

اليوم وحتى نهاية 2014، أصبح حملة الشهادات الجامعية فأعلى يشكلون نحو 17.2 في المائة من إجمالي السكان من سن 15 فأكثر، مقابل نسبة لم تكن تتجاوز 3.8 في المائة بنهاية 1992، كما انخفضت نسبة الأمية والقادرين على القراءة والكتابة فقط من 47.1 في المائة في عام 1992 إلى ما دون 11.3 في المائة بنهاية 2014، وفي ضوء تلك الوتيرة من التحولات المجتمعية التي يخوضها مجتمعنا؛ يقدر أن ترتفع نسبة حملة الشهادة الجامعية إلى 27.8 في المائة بحلول عام 2024، وأن تنخفض نسبة الأمية والقادرين على القراءة والكتابة فقط لما دون 2.3 في المائة.

تمثل تلك التحولات الحضارية المهمة ثقلا مهما جدا في صلب بناء وتصميم أي سياسات وبرامج للتنمية المستدامة، ومنها يفترض أن تنطلق أية سياسات يراد لها أن تحكم وتنظم المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، مستهدفة استثمار تلك الطاقات البشرية، وعلى وجه الخصوص الشرائح الشابة منها، وفي الوقت ذاته للتعامل مع التحديات المتوقع نشوؤها عبر الحقب الزمنية الراهنة والمستقبلية. قد يكون هذا حديثا فضفاضا بصيغته تلك، إلا أنه بالنظر إلى حقائق الفرص والتحديات القائمة والمحتملة مستقبلا، مع تحديدها وتفنيدها كما سبق أن تطرق إليه الكاتب في أغلب المقالات السابقة، سيصبح الحديث عن كل ما تقدم أكثر وضوحا وتحديدا بالنسبة للقارئ الكريم.

إن ارتفاع مستوى التعليم بين شرائح المجتمع، يتطلب في أحد أهم جوانبه أن يتم إيجاد فرص عمل أكثر وأعلى على مستوى التأهيل والدخل، فحينما تكتشف أن نسبة العاطلين من حملة الشهادات الجامعية فأعلى يشكلون في الوقت الراهن نحو 51.0 في المائة من إجمالي العاطلين عن العمل، الذين كانوا لا يتجاوزون نصف هذه النسبة قبل نحو عشرة أعوام، فهذا يعني أن فرص العمل التي يتم إيجادها في بيئة سوق العمل المحلية أدنى بكثير من المأمول! حتى وإن حدث نمو مطرد في تلك الفرص خلال الفترة الأخيرة، وستعد معضلة تنموية بالغة التعقيد أن تشهد الأعوام المقبلة ارتفاعا في هذه النسبة للعاطلين بين حملة الشهادات الجامعية فأعلى، وهو ما نلمسه اليوم وفقا لما تحتويه أرحام الجامعات المحلية مضافا إليه أعداد المبتعثين في الوقت الراهن، الذين تتجاوز أعدادهم سقف الـ 1.5 مليون طالب وطالبة!

إنه رقم كبير جدا يشكل نحو 50 في المائة من حجم العمالة الوطنية في سوق العمل اليوم، ومؤداه أن ما لا يقل عن ثلاثة أرباع هذا الرقم من طلبة وطالبات التعليم الجامعي ستتراكم أفواجهم على أبواب سوق العمل في منظور الثلاثة إلى الخمسة أعوام المقبلة، دع عنك حملة الشهادة الثانوية ودبلوم ما دون الجامعة، الذين يعادلون تقريبا هذا العدد، بمعنى أن الاقتصاد الوطني مقبل على تحدٍّ جسيم جدا يتطلب منه أن يوجد ما لا يقل عن 3.0 ملايين فرصة عمل جديدة في منظور الخمسة إلى السبعة أعوام المقبلة! وما يزيد من تعقيد هذا التحدي؛ أن سياسة إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة لن تفي بأكثر من 10 في المائة من تلك الوظائف المطلوب إيجادها، ذلك أن أكثر من 92 في المائة من الوظائف الراهنة في سوق العمل المحلية التي تشغلها العمالة الوافدة، لا تتجاوز مؤهلات شاغليها أعلى من الشهادة المتوسطة فما دون!

الخطوة الأولى لاجتياز هذا التحدي التنموي وما يليه من تحديات جسيمة، يبدأ من سوق العمل، وضرورة أن تتوافر الوظائف الإنتاجية اللازمة لخدمة الاقتصاد، وأن تمتاز بمستويات دخل جاذبة وجيدة وكافية، وما ذاك إلا للمساعدة في تجاوز بقية التحديات التنموية التالية من تحسين للدخل، واستعداد أمثل لتأسيس الأسرة والاستقرار، والحصول على المسكن المناسب، والمساهمة عموما في عجلة التنمية المحلية بدرجة تخدم الوطن واقتصاده الحيوي. لهذا أركز هنا وفي كثير من المقالات حول هذا المدخل الرئيس لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة، وهو دون أدنى شك ما يهتم به كثير من المهتمين والمختصين في الشأن الاقتصادي والتنموي المحلي.

ولا يقف التحدي التنموي هنا عند هذا الحد؛ إذ إنه يأتي مضافا إلى ما هو قائم في الوقت الراهن من رصيد متراكم على هذا المستوى، ممثلا في رصيد العاطلين عن العمل منذ الأعوام الأخيرة، الذين تجاوزت أعدادهم حتى نهاية العام الماضي سقف 750 ألف عاطل وعاطلة، يشكل حملة الشهادات الجامعية فأكثر منهم نحو 51.0 في المائة من الإجمالي، وهذا الرقم هو الأدنى بين عديد من الأرقام التقديرية سواء الصادر عن صندوق الموارد البشرية أو وزارة الخدمة المدنية، ورغم كل ذلك فرصيد من العاطلين بهذا الحجم، وأمام ما نراه محتملا من التحديات المماثلة له في منظور الأعوام الخمسة المقبلة، لا شك أنه سيزيد من حجم التحديات التنموية، وأنه يتطلب جهودا مضاعفة بكثير من قبل الأجهزة الحكومية ومن يشاركها من كيانات القطاع الخاص، لأجل التغلب على تلك الاحتمالات القريبة الزمن.

سبق أن تم طرح عديد من الحلول اللازمة لأجل اجتياز تلك التحديات الجسيمة المقبلة، وقياسا على أهمية هذا الملف التنموي الثقيل الوزن، فإنه من الضرورة بمكان إعادة طرحها مرة أخرى، وترتفع أهمية إعادتها أن المتحقق على أرض الواقع حتى الوقت الراهن، تشير مؤشراته إلى أنه أتى دون المأمول رغم كل ما تحقق منه طوال الأعوام الخمسة الأخيرة، فإلى الملتقى قريبا استكمالا لتناول هذا الملف المتجدد الأهمية والضرورة على حد سواء. والله ولي التوفيق.

المصدر : جريدة الإقتصادية - 11-2-2015 م