د. زهير الحارثي - صحيفة الاقتصادية

عدد القراءات: 1168

في كلمته للمواطنين، استعرض الملك سلمان السياسات الداخلية والخارجية وتناول ملفات عدة موضحاً موقف بلاده منها، ومنوها بالتحديات والمخاطر التي تواجهها. تحدث خادم الحرمين بشفافية مرتهناً إلى عظم المسؤولية وشعوره بثقل الأمانة سائلاً المولى عز وجل أن يمده بعونه وتوفيقه، ومن عادة الشعوب ومن طبيعتها أنها تتطلع للاستماع لما يقوله قادتها من منطلق رغبتهم في حل قضاياهم وتبديد هواجسهم المتعلقة بالمستقبل، ما يدعونا للتوقف عند مضامين الكلمة من آراء جديرة بالتحليل. وإن كان تركيزنا هنا يقتصر على الملف الداخلي.

لقد جاء خطاب الملك حاملاً تصوراً للعهد الجديد ليضع الأمور في نصابها الصحيح ويرسل إشارات واضحة لأطراف عدة قد يعنيها الأمر بشكل أو بآخر لا سيما في ظل ما يحدث في المنطقة من محاولات تضخيم وتهويل وإرهاب دول وحركات وتوزيع أدوار وإخلال بموازين القوى.

كان الخطاب شاملاً ومباشراً وهو بمثابة رؤيته التي تعكس فكره وتعبّر عنه وبامتياز. فالفكر والشيء الواقعي حقيقة واحدة، كما كان يقول الفيلسوف هيجل، بمعنى أن كل الحقائق ما هي إلا كشف عن الفكرة وتعبير لها، وكأنه بذلك يقول إن الحقيقة النهائية هي العقل، ولكي تبلغ تلك المرحلة عليك أن تجتاز مراحل متعددة، فما الحقيقة في نهاية المطاف إلا الفكر، وهو الذي يقوم بالتفسير العقلي لكل شيء.

غير أن اللافت أن الملك كان ولا زال يؤمن بالمنهجية والدور المهم للأجهزة الرقابية منذ زمن فعندما كان ولياً للعهد قال بان “ضمان الاستقرار وديمومته لا يأتي بالتمني بل بالعمل الجاد لإقامة العدل بعمل منهجي منظم يقوّي مؤسسات القضاء وأجهزة الرقابة ويفعّل أدوات رصد الفساد ويعزز مبادئ النزاهة وينشر ثقافتها ويضمن بالتشريعات والأنظمة والقوانين حقوق المواطنين وكرامتهم وأموالهم وأعراضهم”.

وهاهو يعيد في كلمته بالأمس وهو ملك للبلاد مؤكداً على ذلك بقوله “وقد وجهنا بمراجعة أنظمة الأجهزة الرقابية بما يكفل تعزيز اختصاصاتها والارتقاء بأدائها لمهامها ومسؤولياتها، ويسهم في القضاء على الفساد ويحفظ المال العام ويضمن محاسبة المقصرين”. عبارات الملك هذه تنم عن حزم وعزم على مواجهة هذا الوباء الذي استشرى في بعض الأجهزة الحكومية ما يعني ضرورة تفعيل قوانين مكافحته. ولعل هذا التوجه الذي يطرحه الملك سيدفع باتجاه تأسيس دولة المؤسسات وتعزيز العدالة الاجتماعية.

غير أن الهاجس الدائم لخادم الحرمين هو تعزيز الوحدة الوطنية وحمايتها وهو لا يلبث أن يشدد عليها في أحاديثه ولقاءاته. يقول “إن كل مواطن في بلادنا وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى..” وهذه لفتة ملكية حازمة وصارمة تؤكد أن لا ثمة تمييز بين مناطق المملكة من ناحية التنمية ولا من حيث المكانة والاهتمام ناهيك عن التنوع المجتمعي الفريد الذي يضم أرجاء المملكة من قبائل وحضر وسنة وشيعة وإسماعيلية وغيرهم، فأبناء الوطن كما شدد، متساوون في الحقوق والواجبات” وبالتالي فإن رسالته واضحة وصريحة حيث لا مساومة أو مزايدة على الوحدة الوطنية، كونها خطاً أحمر لا يجوز المساس بها لأنها تمثلنا جميعاً. ولا تفرقة عنصرية أو مذهبية أو مناطقية، فالنسيج المجتمعي يجب أن يكون متماسكاً ومتناغماً ومحصناً لمواجهة المخاطر التي تستهدف الوطن.

وفي جانب مضيء من كلمته يقول” ونؤكد حرصنا على التصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة، والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع بما يضر بالوحدة الوطنية.” هذا يعني بلا مواربة أن الملك ضد التصنيف الفكري والتحريض والتعصب والنعرات المهددة للسلم الاجتماعي كونه يطالب الجميع بضرورة المحافظة على اللحمة الاجتماعية وهي بمثابة معادلة وطنية ما بين الحاكم والمحكوم أدت إلى ترسيخ التجربة الوحدوية. والذاكرة تقول لنا إنه عندما كان ولياً للعهد أشار إلى هذا الترابط قائلاً لأولئك الحاقدين الذين راهنوا “على زعزعة استقرار دولتنا إنهم خسروا من الجولة الأولى، وان كل من راهن على ضعف ولاء المواطنين لبلدهم فشلوا منذ اليوم الأول، نسي هؤلاء كلهم أن ركائز الدولة مشتركة مع قيم الأفراد، وأن هذه الدولة قامت على سواعد أجدادهم فصنعوا الوحدة وحافظوا عليها”.

كانت السعودية توصف بأنها دولة شديدة المحافظة ولكنها تعيش اليوم حراكاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. دولة عصرية وحديثة في إطار من المحافظة والتفاعل مع المتغيرات وذلك إدراكاً من القيادة أن ذلك يمثل ضرورة إستراتيجية. ولعل المحطات التاريخية التي عاشتها السعودية وبالرغم من حجم التحديات برهنت على الترابط واستباق الأحداث، ما جعل النتائج تأتي مخالفة لكل التكهنات. وهذا ما لمسناه في الفترة الماضية من حيث ترابط الدولة وتماسك مؤسساتها السياسية والشعبية بما يحقق المصلحة العليا للبلاد، على اعتبار أن مقتضيات الشريعة ومواد النظام الأساسي للحكم ووحدة التراب الوطني من الثوابت الوطنية التي يجب التمسك بها.

صفوة القول: كلمة الملك جاءت لتؤكد أن الوطن للجميع، رافضة التمييز المناطقي والتصنيف الفكري ما يعني تكريس الوحدة الوطنية وتعميق المواطنة، لأن التفريط بهما لا قدر الله يعني الضياع والانهيار وهو ما يتمناه الحاقدون والشامتون والمتربصون الذين يتحينون الفرص لبث سمومهم.. حمى الله الوطن.

المصدر : صحيفة الاقتصادية - 17-3-2015 م