يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل - جريدة الرياض

عدد القراءات: 1180

الإسلام دين الرحمة بالعالم أجمع، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. دين المحبة والإخاء،” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”. دين يقف مع العقل والعقلانية ضد الخرافات والعرفانيات، (أفلا تعقلون، أفلا تتكفرون، هل من مدكر). دين السلام والدعوة إليه حتى في أشد حالات الحرب اشتدادا،” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها”. دين حرية العقيدة، “لا إكراه في الدين”. دين التسامح والرحمة والعفو عند المقدرة:” لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”،” اذهبوا فأنتم الطلقاء”. دين الرفق بالحيوان، فكيف بالإنسان،” إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”، بل لقد دخلت امرأة النار في هرة سجنتها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، كما دخلت امرأة مومس الجنة لمَّا سقت كلباً كان يلهث من العطش.

هذا الدين العظيم بإنسانيته وعالميته، كيف حوّله المتطرفون والإرهابيون والكارهون لذواتهم إلى “دين” يدعو إلى القتل والتشريد وسبي النساء وبيعهن في سوق النخاسة؟ لقد دخل الناس، قديماً وحديثاً، في دين الله أفواجاً، لمّا قُدِّم إليهم الإسلام بصورته النقية التي نزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم، والتي قوامها العدل والإنصاف والمساواة والحريات الفردية والعامة والرحمة والإباء، وكل ماجاءت به منظومة حقوق الإنسان الحديثة.

إن من سوء حظ المسلمين اليوم أن من يرفع راية”دينهم” في العالم، جماعات متطرفة، تتكئ على تأويل سياسي براغماتي قديم للإسلام، تأويلٍ صيغ عقب تحول الحكم من خلافة راشدة على منهاج النبوة، إلى ما هو على حساب قيم الإسلام، ومبادئه الإنسانية العالمية. نظام شَخصَتْ روحَه الكسروية مقولةُ الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز بعدما أوقف الفتوحات الأموية،:” إن الله بعث محمداً هادياً، ولم يبعثه جابياً”، حتى يذكر أنه قد بلغ الجشع ببعض خلفاء بني أمية لم يسقطوا الجزية عمن أسلم من شعوب المجتمعات المفتوحة، طمعاً في استمرار ضخ أموال الجزية إلى بيت المال!

هناك أحداث تاريخية أُلبسِت الإسلام زوراً وعدواناً، هي التي ورثها بعض المسلمين المعاصرين عن التاريخ الإسلامي، ولقد يعز على المسلم الذي ينشد العزة لدينه أن يرى الجماعات المتطرفة اليوم وهي تتخذ من الروح القبلية الكسروية التي ألبست الإسلام زوراً، شعاراً لها، فتتبنى القتل في أبشع صوره، حتى لقد وصلت بشاعته إلى حد إحراق الناس وهم أحياء محشورون في أقفاص حديدية، وإلى استباحة البيوت وسَوْق النساء والأطفال سبايا، وتوزيع النساء على المقاتلين كما توزع الشياه والماعز! وبيْع ما يفضل منهن في سوق النخاسة المعاصر!. فأين هذه الأفعال الشنيعة من خُلُق الإسلام العظيم الذي أنزله الله تعالى لإنقاذ الإنسان من استعباد أخيه الإنسان؟

لقد أدى تقديم الإسلام بصورته الإنسانية العالمية بأكابر مفكري الغرب والشرق إلى أن يشهدوا له بأنه أعظم ملة كرست قيمة الإنسان بصورته المطلقة. يقول الفيلسوف الفرنسي(غوستاف لوبون)، في كتابه(حضارة العرب):” إن الإسلام من جزيل النعم على جميع الشعوب التي اعتنقته”. ويقول(دوزي رينهرت) في كتابه(تاريخ مسلمي أسبانيا) :”إن الدولة التي أسسها النبي محمد لها من التشريعات، على الرغم من بُعْد الفترة الزمنية الفاصلة بيننا وبينها، ما يجعل العالم يحاول الوصول إلى بعضها عن طريق المنظمات الدولية، وما يتفرع منها”. أما رسول الإسلام محمد – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – فلقد شهدوا له بالإنسانية وتكريس التسامح والحرية والإخاء، إذ يقول عنه البروفيسور (بوسورث سميث) مثلا،: “أجد النبي محمداً أقدس الناس، وأعلاهم مرتبة، حتى إن الإنسانية لم تجد له مثيلا”.

إن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين، إذ يدلون بهذه الشهادات في حق الإسلام ونبيه – عليه الصلاة والسلام – إنما ينطلقون من معرفة بالإسلام بصورته الإنسانية المدنية العالمية. ولذلك، نجد أن من اعتنقوا الإسلام منهم ، يبررون اعتناقهم له بأنهم وجدوه ينضح بالحرية والكرامة، وبمحاربة الاستعباد للعباد. فهذا(بريشا بنكمرت) يقول عن الإسلام بعد أن اعتنقه عام 1391ه تاركا ديانته الأصلية: البوذية،:” إن دين الإسلام هو دين الحرية والمساواة والإخاء والكرامة والعزة، ويظهر ذلك جلياً في أحكامه ومبادئه وآدابه”. ولا يمكن لهؤلاء أن يشهدوا للإسلام بهذه الشهادات التي لم تحصل عليها حتى منظومة حقوق الإنسان المعاصرة، لو أن الإسلام قُدِّم لهم انطلاقاً من الشعارات التي ترفعها القاعدة وداعش والنصرة والحوثيون وحزب الله ولواء أبي الفضل العباس وعصائب الحق، ومن لف لفها، تلك الشعارات التعساء التي ترفع رايات الخراب والدمار واستباحة الأنفس والديار، وإهلاك الحرث والنسل، وإحراق الأخضر واليابس، وتخريب الآثار والفنون!

لقد أسس الإسلام للتسامح والعفو ولين الجانب، وطرق التعامل مع الناس وما جُبِلوا عليه من عقائد ومذاهب، فقال تعالى لنبيه الكريم:” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر”. بينما يقول في الآية الأخرى، على لسان نبيه الكريم:” وأُمِرتُ لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير”. ولقد يجدر بنا ونحن اليوم على مفترق طرق أحداث عربية وعالمية، أن نلحظ كيف قرن القرآن العدل بحرية العقيدة، فالآية الأخيرة تقرر أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالعدل مع الناس كلهم، بصفتهم عباد الله،(الله ربنا وربكم)، ومما يترتب على العدل، وفقا للآية، أن يُخْلَى بين الناس وبين مللهم ونحلهم،(لنا أعمالنا ولكم اعمالكم)، لأن المرجع فيها لله تعالى يحكم بين معتنقيها يوم الحساب. وهنا تتجلى أعلى قيمة يتصف بها الإسلام بصفته رحمة وإنقاذاً للناس كلهم، مسلمهم وغير مسلمهم. فهل يعي ذلك من عقلوا الإسلام بوصفه تفرقة بين الأخ وأخيه، وبين المرء وابنه، وبين الرجل وزوجته وابنته؟

إن الحالة الإسلامية المزرية اليوم لتدعو أهل الحل والعقد من المسلمين، وخاصة الهيئات التي لها كلمة مسموعة، كالأزهر وهيئة كبار العلماء، وكالمجمعات الفقهية، إلى أن يتبنوا منهجاً على مستوى الخطاب الديني، يعيد للإسلام صورته القرآنية النبوية النضرة، بالتركيز على المشتركات والقيم الإنسانية، كما تدعو المشرفين على وزارات التربية والتعليم بدول العالم الإسلامي إلى تبني منهج تعليمي وأكاديمي يركز على إعادة الاعتبار للإسلام الصحيح الغض الطري كما نزل، قبل أن تتخطفه أيدي المتطرفين وأصحاب المذاهب ذات المنشأ السياسي النفعي الضيق.

يجب أن يركز المنهجان معاً على تقديم الإسلام للناس، وللنشء بصفة خاصة، بقيمه الإنسانية الغائية، من العدل والرحمة وحرية العقيدة والشورى وقيمة الإنسان بما هو إنسان مادام ملتزماً بالمعايير الدينية والإنسانية، تكفل له كل ما يمت بصلة إلى الحريات الفردية، مما لا يتماس سلباً مع الحريات العامة التي ينظمها القانون. لأن الرمي بالسلاح التكفيري، لا يزيد الطين إلا بلة، ولا النار إلا ضراماً. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر : جريدة الرياض - يوم السبت 15 جمادى الآخرة 1436 هـ - 4 أبريل 2015م