سطام المقرن - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1595

نشأت المملكة على النهج الإسلامي، وعملت على إرساء قواعد العدالة بالنسبة إلى جميع المواطنين والمقيمين، واقتضى ذلك الاهتمام بالمؤسسة القضائية، التي شهدت نقلة نوعية شملت جميع مرافق القضاء وأعماله، حيث أولى ولاة الأمر اهتماما بالغا نظير ما خصص للقضاء من اعتمادات مالية ضخمة، وخطط استراتيجية بعيدة المدى، أسهمت في تنفيذ مشروعات جبارة طبقت على أرض الواقع، وأدت إلى تحقيق القدر الأعلى من العدالة، وحفظت حقوق المتقاضين، وسرعة الفصل في القضايا.
وعلى الرغم من التطور السريع للقضاء في المملكة، إلا أنه مازال هناك حاجة ماسة لإنشاء محاكم متخصصة؛ لتباشر النظر في العديد من القضايا المتراكمة بدلا عن تحميل المحاكم العامة أعباء النظر فيها ومباشرتها، فقد نصت المادة التاسعة من نظام القضاء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/78) وتاريخ 19/9/1428 على أنه “تتكون المحاكم مما يلي: .. محاكم الأحوال الشخصية والمحاكم التجارية والمحاكم العمالية.. وتختص كل منها بالمسائل التي ترفع إليها طبقا لهذا النظام”.
وليس هذا وحسب، بل أعطت المادة السابقة من نظام القضاء، المرونة للمجلس الأعلى للقضاء في إنشاء محاكم متخصصة أخرى، والسؤال المطروح هنا: لماذا نجد بطئا شديدا في إنشاء المحاكم المتخصصة؟ فنحن بحاجة إلى وجود محاكم تجارية، ومحاكم عمالية، ومحاكم مرورية، ومحاكم لجرائم الأموال العامة.. إلخ، وذلك بسبب الازدهار الاقتصادي والتطور السريع الذي تعيشه المملكة؛ مما يتطلب معه سرعة البت والفصل في الدعاوى القضائية، إلى جانب تحقيق العدالة المطلوبة.
بعض المختصين في المجال القضائي أرجع أسباب البطء في إنشاء المحاكم المتخصصة إلى “أن وزارة المالية لم تعتمد القدر اللازم من الوظائف لتلك المحاكم، إضافة إلى تقصير المعهد العالي للقضاء والجامعات المعنية في عملية إمداد وزارة العدل بقضاة مؤهلين لسد العجز الكبير الذي تعانيه في هذا المجال، حيث يوجد عجز في “عدد القضاة نتج عقب التوسع في إنشاء محاكم الاستئناف التي استقطبت أعدادا كبيرة من القضاة الذين تم نقلهم من المحاكم الابتدائية”!.
صحيح أن هناك عجزا في عدد القضاة، سبب هذا العجز في نظري يعود إلى عدم الاعتراف بالتخصصات القانونية في مختلف الجامعات وذلك لأسباب دينية؛ إذ ينظر بعض رجال الدين إلى التخصصات القانونية الأكاديمية بأنها تتعلق بالقوانين الوضعية والاعتراف بها في القضاء الشرعي معناه الدعوة إلى “علمنة” المجتمع، وتطبيق القوانين “الوضعية” بدلا من الأحكام الشرعية، وبالتالي الكفر بما أنزله الله عزّ وجل في كتابه، وما جاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم!
والسؤال المطروح هنا: لماذا يقف بعض رجال الدين موقف المعارض لما يسمى تجاوزاً بـ “القانون الوضعي” على الرغم من أنه يدخل ضمن مصادر التشريع وخاصة في عملية القياس والاجتهاد؟ وحتى تفسير القرآن الكريم والسنة يختلف من مذهب لآخر ومن مفسرّ إلى آخر؟ أليست كل هذه في النهاية آراء بشرية؟ فما هو إذن المعيار في التفريق بين القانون الوضعي والقانون الإسلامي المستمد من الشريعة كما يسميه بعض الكتاب الإسلاميين؟ لماذا نجد الفقهاء -على الرغم من تأكيدهم على الاجتهاد والقياس- مشغولين بكتابة الهوامش والشروح وتكرار آراء العلماء السابقين، ولا نشاهد أثرا لعملية التجديد الفقهي؟
إننا لو قلنا بتطبيق الشريعة بدلا من تطبيق الأنظمة والقوانين في المجتمع، فسوف نواجه إشكالية كبيرة عند تطبيق الأحكام الجنائية، حيث إن الأحكام الشرعية لا تتجاوز القصاص وقطع يد السارق، والحرابة وحد الردة، والقذف وشرب المسكرات، وهذه الحدود لها شروط معينة وضعها الفقهاء قديما بما يتناسب مع بيئة وظروف المجتمع آنذاك، فعلى سبيل المثال، من شروط تطبيق حد قطع يد السارق أن يكون المال المسروق في حرز، وأن يكون المال المسروق أكثر من ربع دينار، وألا يكون هناك مجاعة، كما طبق هذا الشرط الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحوادث السرقة في وقتنا المعاصر لا تنطبق عليها تلك الشروط التي ذكرها الفقهاء لإجراء الحد الشرعي.
ولهذا يضطر القضاة اليوم إلى تشريع عقوبات أخرى كالسجن والغرامات المالية في قضايا الاختلاس وسرقة المال العام مثلا.. أليس هذا معناه أن هناك نقصا في الأحكام الفقهية في المجال القضائي؟ إضافة إلى ما سبق، هناك آلاف الأنظمة والقوانين المستجدة غير موجودة في الشريعة الإسلامية، مثل القوانين الإدارية، وقوانين البحار، وقوانين البيئة، والقوانين التجارية والمرورية، والقوانين الجوية، وقوانين الإعلام والصحافة والتأليف وشبكة المعلومات (الإنترنت)، وقد وضع هذه القوانين متخصصون في دائرة الحقوق والقانون المدني.
لقد تضمن كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مبادئ عامة تتمثل في إقرار العدالة والمساواة وعدم ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، وبناء على هذه المبادئ يتحرك الناس في وضع الأنظمة والقوانين للوصول إلى هذه الأهداف العامة بما يتناسب مع ظروفهم وبيئتهم واحتياجاتهم ومشاكلهم، وبالتالي فإن الإنسان قابل ومؤهل إلى أن يسن القوانين الصالحة في جميع المجالات، وليس هناك معنى إلى حصر التشريع بالنصوص الدينية وأقوال الفقهاء القدامى، فالعقل البشري ليس عاجزا عن إدراك المصلحة الدنيوية في حركة الحياة الاجتماعية.
لا أرى مبررا في التباطؤ في إنشاء المحاكم المتخصصة أو مقاومتها، ولا أرى مبررا أيضا في عدم الاعتراف بالتخصصات القانونية الأكاديمية وتأهيلها في المجال القضائي، خاصة أن المملكة لها تجربة مميزة في مجال إنشاء محكمة متخصصة في دائرة القضاء الإداري ممثلة في (ديوان المظالم)، والذي استقل بنظام خاص لإجراءات التقاضي أمامه، وبذلك يسجل تميزا غير مسبوق على المستوى الدولي؛ لأن الدول العريقة في القضاء الإداري لم تصدر حتى الآن قوانين خاصة لإجراءات التقاضي أمام القضاء الإداري.
فلنسرع إذاً في إنشاء المحاكم المتخصصة، والاعتراف بالتخصصات القانونية وذلك قبل فوات الأوان!.

المصدر : جريدة الوطن - 6-8-2015