د. حمد بن عبد الله اللحيدان - جريدة الرياض

عدد القراءات: 1538

من المعروف أن لكل عصر دولة ورجالاً، ومن المعروف أيضاً أن الأنظمة تتقادم وتصبح أقل كفاءة مع مرور الزمن ومستجدات العصر كما أن الموظفين الذين لا يخضعون للتدريب المستمر يصدأون. وهذا ينتج عنه ثغرات وهفوات وترهل يستغلها ضعاف النفوس. وبما أن النظام هو المسير لجميع أمور العمل في المجالات المالية والإدارية والخدمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية والعسكرية فإن أي خلل فيه مهما صغر تكون له تبعات غير محمودة. ليس هذا وحسب بل ان من يوكل إليه تطبيق النظام من الرؤساء والمديرين ومن فوقهم ومن دونهم لهم دور في أسلوب تطبيق النظام وجعله حازماً أو متراخياً. فهيبة النظام تنبع من جدية تطبيقه وتجديده وعدم وجود ثغرات فيه تؤدي إلى وأد قوته وهيبته واحترامه.

إن سياسة الحزم تستوجب تحديث الأنظمة وإعادة هيكلة المؤسسات حتى تصبح أكثر كفاءة لتنفيذه فهو مدخل الضبط والربط والجدية والالتزام فإذا توافق الحزم مع أدوات تنفيذه أصبح أعظم أثراً وأكثر فعالية ومردوداً وانعكس بالتالي على الأداء العام

فمن المعروف والمؤكد أن من أبرز مظاهر التراخي غياب عوامل الضبط والربط والحزم في بعض المؤسسات أو الأقسام أو الأدوات أو مراحل التعليم المختلفة وتفشي ظاهرة اللامبالاة. ومن أبرز مظاهر اللامبالاة التسيب ومن أبرز سلبيات التسيب الفوضى ومن أبرز سلبيات الفوضى عدم احترام النظام وعدم الالتزام بالقوانين وهذا كله ينعكس على الأداء العام للمؤسسة وبالتالي الدولة والمجتمع من النواحي الاقتصادية والتربوية والتعليمية والصحية، وقبل ذلك وبعده من النواحي السلوكية والأمنية ناهيك عما يسببه ذلك من تخلف وفساد قد يصغر أو يكبر تبعاً لمحدودية انتشاره أو سعته وهذا كله يؤسس ويسهل عملية الفساد بجميع أنواعه.

إن ما يسببه التراخي من تسيب بسبب غياب منهجية الحزم والضبط والربط المستمرة أو المجاملة في مراحل التعليم تخرج أجيالاً غير ملتزمين في أدائهم العملي والوظيفي وربما الأسري والاجتماعي وهذا له دوره وانعكاسه على ما سيتولونه من أعمال ومسؤوليات، ففاقد الشيء لا يعطيه. كيف يعطي من كان ديدنه التخلف عن المدرسة أو المحاضرة وكيف يعطي من كان ديدنه التغيب عن العمل بدون عذر شرعي أو يقضي وقت العمل بغير المفيد وفي ما ليس له علاقة بعمله، وكيف يعطي من لا يحترم النظام ولا يعاقب على فعله وكيف يعطي من تعود على التسيب ومن تعود أن يقرأ ويسمع عن أنظمة تطبق بصورة محدودة. إن عدم جدية بعض الشباب تنبع من عدم الجدية في تطبيق النظام.

نعم إن التراخي والتسيب من أوسع أبواب الفساد. والفساد آفة مجتمعية فتاكة كانت وما زالت وسوف تظل كالسوس الذي ينخر في أداء المجتمعات الغنية والفقيرة والمتعلمة والأمية القوية والضعيفة ولكن بنسب مختلفة فهو مرتبط بالإنسان وما يصنعه ويطبقه أو يلتزم به من قوانين أو أحكام وأنظمة تحد من الممارسات السلبية إن وجدت طريقها إلى التطبيق بصورة منهجية وتزيد من تفشي الظاهرة إن تم التراخي في تطبيقها والتغاضي عن بعض ممارسي الفساد لأن البعض يقلد البعض الآخر فالفاسدون كالديمينو بعضهم حليف بعض الآخر فبدون ترابطهم وحمايتهم لبعضهم البعض يهزم الفساد.

إن أبرز وسائل محاربة الفساد تبدأ بتطبيق النظام بعد إصلاحه وتطويره وتحديثه وفق آخر المستجدات ذات العلاقة به بكل دقة وانتظام. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

– التسيب في العمل من قبل بعض الموظفين بدون عذر شرعي أو باستخدام أعذار واهية أو الحضور وتضييع وقت وجهد الموظفين المجتهدين من خلال التنقل بين مكاتبهم وإضاعة الوقت بالحكي ونقل الكلام أو إضاعة الوقت من خلال الانترنت أو العبث واللعب بالجوال أو قراءة الصحف وكل ذلك له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني حيث يكلف تبعات مالية تُدفع بدون مقابل ناهيك عن تعطيل مصالح الناس وما ينعكس عنه من تذمر وإضافة أعباء على الموظفين الملتزمين حيث يضطرون إلى القيام بعمل ذلك المتسيب وهذا يجعلهم يقومون بجهد مضاعف ومع ذلك فهم في الغالب لا يكافؤون عليه مما يولد لديهم شعوراً بالمهانة وعدم الإنصاف، خصوصاً أن النظام أعمى إذا لم يتم تطبيقه بصورة منصفة لأنه يساوي بينهم وبين ذلك المتسيب في الحقوق والواجبات بل ربما يتقدم المتسيب عليهم بسبب المحسوبية أحياناً.

– التباين في تطبيق النظام بين إدارة وأخرى داخل المؤسسة الواحدة وكذلك وجود تباين في تطبيق النظام بين المؤسسات التي تخضع لنظام واحد. لأن مثل ذلك التباين يوجد أشكالاً من التذمر ووصم من يطبق النظام بجدية وحزم بأوصاف غير لائقة وكيل المديح للمتراخي في تطبيقه مما يوجد مفارقة كبرى تصف الإخلاص بالصلف والظلم وتصف التسيب بالحبابة على الرغم من الانعكاسات الإيجابية للأول والسلبية للثاني. وبطبيعة الحال لا نقصد بالمرونة وتسهيل الإجراءات بأنها تسيب بل هي أساس الإدارة الناجحة. ولهذا فإن محاسبة من يقوم بتطبيق النظام يجب أن تأتي قبل محاسبة من يطبق عليه النظام وذلك مثل المديرين والرؤساء ومن فوقهم ومن دونهم.

– التسيب في حضور طلاب المدارس للمدارس والمحاضرات وتعليق الدراسة لأسباب واهية وبسيطة أحياناً وما يمثله ذلك من انعكاسات على مستقبل الأجيال التي من خلال هذا التسيب والتراخي تتعلم عدم الالتزام خصوصاً عند عدم تطبيق التعليمات الصادرة من الجهات المعنية بجدية وصرامة كافية ومن أمثلة ذلك التراخي: ان الطلاب في مراحل التعليم العام وفي الجامعات يبدأون إجازات العيدين وإجازة ما بين الفصلين وإجازة الربيع قبل أن تبدأ بأسبوع أو عدة أيام وفي بعض الأحيان أيام الخميس من كل أسبوع على الرغم من أن كل التعاميم والتعليمات تمنع ذلك والسبب أن تلك التعاميم والتعليمات ليست مقرونة بتطبيق العقوبات المنصوص عليها في حالة المخالفة. ومن تعلم أن يسمع تعليمات ويقرأ تعميمات لا يعاقب من يخالفها سوف يتعود مخالفة جميع التعليمات والنظم والقوانين، فمن شب على شيء شاب عليه.

– التراخي في محاسبة التقصير في تنفيذ المشروعات من حيث الجودة والمواصفات والعمر الافتراضي وكذلك في مجالات التشغيل والصيانة والتخطيط وترسية المناقصات ناهيك عن التراخي في مجال الضمانات التي يفترض أن يلتزم بها المقاول أو المورد لما بعد التنفيذ أو التشغيل أو التوريد ناهيك عن تعثر المشروعات. كما أن أهلية من توكل إليه مهمة التخطيط وإعداد الدراسة والجدوى ووضع الشروط ودراسة العطاءات وترسية المشروعات وكفاءة المتابعة والتأكد من تطبيق المواصفات والالتزام بالشروط من حيث الجودة والمدة والضمانات وغيرها يجب ان تكون على المحك ولا ننسى الثواب والعقاب فهما عاملان متكاملان. إن التهاون في أي من ذلك يعتبر تراخياً وتسيباً وإذا استشرى يعتبر فساداً وإذا دخلت فيه الرشوة والمحسوبية والواسطة اعتبر خيانة للأمانة والضمير والقيادة والوطن والمواطن.

– عند تخطيط الأحياء السكنية في المدن والقرى كان يتم اعتماد تخطيط الأودية ومجاري السيول ويعطى فسح للبناء فيها مما يتسبب بالكوارث التي نشاهدها بين الفينة والأخرى كما حدث في مدينة جدة وفي مدينة الرياض عند هطول أمطار أعلى من المتوسط فما بالك لو أتت إحدى تلك العواصف الكبيرة التي نسمع عنها لا قدر الله. أليس هذا نوعاً من التسيب إذا أحسنا النية ونوعاً من الفساد من قبل بعض العقاريين الذين كل همهم الربح حيث يقومون بدفن الأراضي المنخفضة ويببيعونها على أساس أنها مستوية وكذلك من قبل من سمح لهم بذلك. ناهيك عن تطبيق صكوك على أراض حكومية زوراً وبهتاناً والذي بدأ يتم التعامل معه بحزم.

نعم الجنرال مطر كما سماه الأستاذ يوسف الكويليت لا يقبل التراخي ولا التسيب ولا الرشوة وليس لديه محسوبية أو واسطة فهو جزء من العدل في الأحكام يظهر الخلل مهما صغر حتى لو بعد حين.

ستبدي لك الأمطار ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تزودي

وما يكشفه الجنرال مطر من خلل يجب أن يخضع المتسبب فيه للمساءلة والمحاسبة خصوصاً إذا كان ذلك الخلل جلياً وواضحاً لكل ذي بصيرة وقلب سليم. على ان يكون من شروط ترسية المشروعات احتساب نجاح المشروع أو المخطط في مقاومة آثار الأمطار كأحد المؤشرات الرئيسية على تمام المشروع ولو بعد حين.

-إن المشروعات التي تنتهي مسؤولية منفذها عنها بمجرد تسليمها سوف تظل محل شبهة لأن الضمانات يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من المشروع ولمدة لا تقل عن عشر سنوات على الأقل: فهل تبدأ هيئة مكافحة الفساد بمعالجة جذور الفساد جنباً إلى جنب مع معالجة ثماره وآثاره.

عند تحديث الأنظمة لا بد وأن يكون ذلك بالترافق مع إعادة هيكلة وتحديث الأجهزة والمؤسسات الحكومية بحيث تنفض عنها غبار الماضي الذي تراكم عليها عبر عقود من الزمن وذلك حتى تتخلص من كثير من الأعباء السلبية والروتين المعطل من أجل أن نختصر المسافة بين قاعدة وقمة هرم المسؤولية في هذه المؤسسات أو تلك مما يختصر الوقت ويعظم الأداء ويسرع الإنجاز ويقلل التكاليف ويعطي وجهاً حضارياً يتسق مع سياق الحاضر ومتطلبات العصر كما يأخذ متطلبات المستقبل بعين الاعتبار.

إن سياسة الحزم تستوجب تحديث الأنظمة وإعادة هيكلة المؤسسات حتى تصبح أكثر كفاءة لتنفيذه فهو مدخل الضبط والربط والجدية والالتزام فإذا توافق الحزم مع أدوات تنفيذه أصبح أعظم أثراً وأكثر فعالية ومردوداً وانعكس بالتالي على الأداء العام.

إن جمود بعض الأنظمة وجمود فكر من يقوم عليها من أوسع أبواب الفساد لأنها تؤدي بجمودها هذا البحث عن مخرج ومبررات تسطر على الورق وليس لها في واقع الأمر وجود وهذا الأمر يجر معه أطرافاً عديدة داخل المؤسسة المعنية وخارجها مما يوسع من قاعدة الفساد ويعممها.

إن تطبيق النظام دون النظر إلى التبعات السلبية المترتبة على تطبيقه من أوسع أبواب الخلل وهذا ما يتم من خلال الإدارة التي تتم من خلال الجلوس على المكتب وتوقيع الأوراق الواردة والصادرة دون النزول إلى الميدان وتحسس ما يجب تلافيه من أخطاء من أكبر العوائق التي تقف أمام إدارة العمل في الدول النامية. والله المستعان.

المصدر : جريدة الرياض - 4-9-2015