عادل الكلباني - جريدة الرياض

عدد القراءات: 1656

في التنزيل الكريم: «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى».

ما بال النمل لا تخطئ طريق مصلحتها؟ وما بال النحل تشيد مدنها ومملكتها مع كثرتها وصغر محيطها، وتصنع شرابًا مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس؟، إنها هداية ربها لها باحترام حياتها، والحفاظ على قانون معيشتها، فجعلت حياتها مجتمعًا راقيًا يسير وفق نظامٍ دقيقٍ وقانونٍ مقدسٍ لا مجال لمخالفته، ولا موضع لمن يحاول خلخلته.

إن مملكة النحل يحار عندها العقل، مما يرى من نظام متقن في مملكة لا يشوبها خلل، ولّى الله أمرها مَلِكَة يلتف شعبها حولها، ولا يكاد يدير لها ظهره إلا لانشغاله بما أنيط به من عمل، مجتمع بلغ به إخلاصه لموطنه وتفانيه في تقديسه حياته ونظامه أن يقف حارسًا في أسوار المملكة، ويستبسل في الدفاع عنها إلى درجة أنه يموت وهو غارز سلاحه في صدر عدوه!

ومهما تحدثنا عن تلك المملكة العظيمة، ونظامها المتقن المتناسق فإن القلم لا يكاد يفي بجزء يسير من أسرار حياتها ونظامها، لكن يكفينا أن ندرك أن مجتمع النحل مع هذا النظام الدقيق والهداية الربانية مسخر هو وغيره من العوالم، مسخرون لهذا الإنسان تكريماً وتشريفاً من الله.

ولا ينقضي عجبك إذا أطللت بنظرتك على ما في البحار والأنهار والسماء والجبال، كل ذلك خلقه الله وهداه، والشمس والقمر والنجوم، كلٌ بدقة متناهية وبحساب دقيق يقف عنده العقل البشري حائرًا، وتلهج عنده الألسنة تسبيحًا وتقديسًا لخالقها، كل ذلك خلقه الله مسخرًا لهذا الإنسان، «وسخَّر لَكم ما في السماواتِ وما في الأرض جميعاً منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكَّرون» ألا يعجب المتأمل بعد ذلك من العبث الذي يعيشه من سخرت له السماوات والأرض!؟.

إننا حين ننظر إلى ما يسمى ب “المجتمعات الراقية” بحسب تعبيرهم، والشعوب المتقدمة صناعيًا وإداريًا وعسكريًا واقتصاديًا، نجد أن أكبر عامل ساعدهم على الرقي بحياتهم هو احترامهم لما قننوه لأنفسهم، وتقديسهم لما وضعوه من بنيات أفكارهم لتسيير حياتهم، حتى قيل إن الشعب الفلاني كالنحل!.

ويزداد تأكيد هذا القيل إذا ما نزلت بينهم، وسرت في وسطهم، فإنك ستلمس عن قرب كيف يعيشون، ويبيعون ويشترون، ويصنعون، وكيف يركبون وينزلون، كيف هي معاملاتهم في إداراتهم، في مطاراتهم، في قطاراتهم، في شوارعهم، وما مدى التفوق في مدارسهم وجامعاتهم، والإبداع في اختراعاتهم وصناعاتهم.

وستجد أن الأمر متعلق بثقافة تقديس النظام، واحترام الحياة، النظام على مستوى الأسرة، على مستوى المدرسة، فالإدارة، فالوزارة، وكل رجل في مكانه المناسب إذ لو أدار الإدارة من لا يعرف قانونها، ولا يحترم نظامها ويقدسه، لكانت إدارة فاشلة، بل إدارة فاسدة.

ولذلك جاء عن خير من قاد وساس صلى الله عليه وآله وسلم: “من تولى عملاً وهو يعلم أنه ليس لذلك العمل أهل فليتبوأ مقعده من النار”، فهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم، تعظيم لنظام الحياة، وقطع مادة الفساد بالوعظ الملامس للقلوب، وتبيين أن لكل عملٍ رجاله، فإذا ما وضعنا الرجل المناسب في المكان المناسب ابتداءً من أصغر الدوائر والإدارات، وثقفنا الجماهير بأهمية احترام القانون، وأن هذا الاحترام لا يخرج عن تقديس الشريعة، وتطبيق عملي لها، فإنها المرجع الأساس لتقنين الحياة، ووضع مواد القانون الذي نسير عليه.

إن أهمية احترام القانون لا تقل شأناً عن إنشائه، ونحن نرى شعوبنا لا تفتقر إلى القانون بقدر ما تفتقر إلى تطبيقه، وإن تطبيق القانون هو ثقافة شعوب، وليس مجرد صلابة أنظمة، فكم من أنظمة كانت في صلابتها يضرب بها المثل، غير أنها انهارت عند أول إعصار، فأصبحت في خبر كان.

نحن بأمس الحاجة إلى إحياء ثقافة “احترام القانون”، ليس مجرد لفظ نتلفظ به، أو خبر نملأ به الصحف وعناوين الأخبار، بل واقع نلمسه في شوارعنا، ومدارسنا، وإداراتنا، ومطاراتنا، فنحن مسلمون، وديننا دين جاء بالنظام والدقة في مواعيد شعائره، وأماكنها، وطريقتها، وألزم المتبعين له بالسير على منهجها، وفي كثير من عقوباتها “من فعل كذا، فليس منا”، فنحن أحق من غيرنا في أن يضرب بنا المثل “شعب كالنحل”، وهذه المرتبة لا تأتي اعتباطاً، بل قبلها منازل تدرجية كي نرقى بأنفسنا من خلالها حتى يترك أحدنا ما ليس له، لمن هو له، ويكف عن التدخل فيما هو ليس من شأنه، لمن هو من شأنه، وينضبط لدوره في الحياة، ويعتقد أحدنا جازمًا أن حياة الفوضى واللامبالاة هي دمار الشعوب ومؤشر لتهاوي الحياة المنظمة، وتوغل في الفساد الكبير للحياة، الذي يجزم أحدنا معه تبعًا لفساده بفساد الناس وكما قيل:

لا يصلح الناس فوضى لا سراةَ لهم

ولا سراةَ إذا جُهالُهم سادوا

فحياة القانون والنظام متداخلة ومترابطة بين الحاكم والمحكوم، وبين المدير والمُدار، وبين الفرد والمجتمع، وكلّ أحد من هؤلاء مطالب باحترام القانون وتقديسه؛ لأن تقديسه من تقديس ما سيق وأخذ منه.

وكثير منا ينبهر إذا كانت زيارته الأولى التي يحط فيها قدميه على أعتاب بلاد متقدمة، لا تدين بديننا، ولا تعتنق عاداتنا وتقاليدنا، ويتعدد فيها الانتماء العقدي، وتُستغربُ فيها الديانات وتكاد تنعدم فيها الروابط العرقية، لكن كم يبهرك التنظيم في مدنها، وشوارعها وأزقتها، وكم يعجبك حسن التزام النظام، ومسارعة الجميع للإنكار على من يكسر النظام، أو يخالفه.

أفلسنا أولى بذلك منهم، فنحترم حياتنا، وأنظمتنا، وقوانيننا التي وضعت لأجلنا؟

المصدر : جريدة الرياض - 15-11-2015