أحمد الجميعة - جريدة الرياض

عدد القراءات: 985

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والمنطقة العربية مغلوب على أمرها، وشكّل الغزو الأميركي للعراق أصعب اختبار عربي فاشل، ثم جاء مشروع «الفوضى الخلاّقة» ممهداً الطريق أمام عواصم عربية أخرى حان وقت التغيير فيها للأنظمة والأشخاص، وتوجت ذلك المشروع أحداث «الربيع العربي»؛ حين كانت أحلام الشعوب تُبنى على رصيف شارع مغلق في آخره، ثم ظهرت مبادرة «السلام البارد» لإعادة التوازن بين العرب والفرس في خذلان أميركي لحلفائها، وانحياز أعمى لما هو أسوأ في المستقبل، وبيع على المكشوف للمواقف والتاريخ.. والجغرافيا السياسية أيضاً.
ولكن لم نتخيّل أن يصل الابتزاز للمنطقة وشعوبها إلى درجة إقرار الكونغرس الأميريكي مؤخراً «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب»، أو ما يسمى «جاستا»، وهو أخطر على الدول من إعلان حالة الحرب عليها؛ لأنه ببساطة يهين حصانتها، وينتهك سيادتها، ويجعل مرجع تحاكمها إلى القضاء الأميركي، ومثولها أمامه بدعوى أفراد وليس دول لها كامل الاحترام؛ بحسب ما نص عليه القانون الدولي، ومبادئ وبنود ميثاق الأمم المتحدة.
القانون الجديد يؤسس إلى فوضى أميركية جديدة، ولكن هذه المرة في العلاقات الدولية، وانتقائية رعاة الإرهاب، وازدواجية معايير الحكم عليهم، وهي صفحة في كتاب مفتوح على الدوام، تكتب فيها أميركا وتمحو ما تراه إرهاباً من وجهة نظرها، ومن يستحق المحاكمة، وكل ذلك طبعاً بحسب مصالحها، وحساباتها السياسية والعسكرية الخاطئة غالباً، بل أسوأ من ذلك حين تتنازل أميركا عن نفوذها لخصومها وليس لحلفائها في المنطقة، وتتركهم في موقف الضعيف المُهدَد الذي لا يستغني عنها حتى لو تخلت عنه.
«جاستا» خطير جداً، والأخطر حين تتسابق الدول إلى استنساخ القانون ذاته، وتبدأ عهد المحاكمات بين الدول، ولكن الغريب أن أميركا التي قتلت في غزوها للعراق أكثر من (750 ألف) مدني وعسكري، وقبل ذلك مدنيين في أفغانستان بطائرات بلا طيار، وما بين ذلك في باكستان والصومال واليمن، وغيرها الكثير؛ لم تتوقع المعاملة بالمثل لو أقرت قانونها الجديد وتبعتها الدول الأخرى، ثم تمت محاكمتها على ما اقترفته من حروب ضد البشرية، أو ما سعت إليه من فوضى عربية، أو ما تسببت فيه من صراعات وانقسامات بين دول الإقليم!.
رعاة الإرهاب في نظر أميركا هم من يعارضون مصالحها، أو يختلفون معها على تفاصيل تلك المصالح، وبالتالي لا يمكن الثقة في قانون أو دولة منحازة لذاتها، أو تهدد حلفاءها، وأيضاً لا يمكن القبول بقانون يريد أن يبتز العالم باسم مكافحة الإرهاب، ورعاته الدوليين، أو محاكمة الدول على تصرفات الشاذين من أفرادها، أو من ارتكبوا جرائم إرهابية في حق الآخرين، وتحريض عوائلهم على إقامة الدعاوى، وحماية مطالبهم بقانون العدالة «جاستا».
نحن في المملكة عانينا من الإرهاب أكثر من أي دولة أخرى، وضرب مواقع عدة من مدننا وقرانا وحتى وصل إلى مساجدنا ومقدساتنا، وتطاول على رموزنا الوطنية باستهداف ولي العهد الأمير محمد بن نايف في عملية انتحارية داخل منزله، ومع ذلك نجحنا في مواجهته، وكسر شوكته، وطرد القاعدة من المملكة 2006، وتحالفنا مع الإميركان في مهمة تطهير المنطقة من آفة الإرهاب، كان آخرها التحالف الدولي لمواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي، وقبل ذلك محاصرة «القاعدة» في العراق واليمن، وتبادل المعلومات بشكل مستمر بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البلدين، بل كانت المملكة طوال عقدين من الزمن محل إشادة واسعة من الحكومة الأميركية في جهودها لمحاربة الإرهاب، وقدراتها الأمنية، وكفاءة رجل الأمن وجاهزيته للمواجهة، وأيضاً دورها في تعزيز السلم العالمي، والأمن والاستقرار في المنطقة العربية.
وهذا التعاون الذي لا يزال قائماً، ووثيقاً، ويستند إلى إرث تاريخي طويل من العلاقة الإستراتيجية بين البلدين؛ ليس بحاجة إلى قانون يفقد هذه العلاقة جوهرها، ومكانتها، وسيادتها، ولا تستحق أيضاً هذه العلاقة أن يشوبها مهددات الابتزاز والمساومة؛ لأنها يجب أن تبقى لمصالحنا مهما اختلفنا في تقديرها يوماً ما.. وهذا هو عين العقل.

المصدر : جريدة الرياض - 19 سبتمبر 2016م