أ.د.سعد علي الحاج بكري - جريدة الأقتصادية

عدد القراءات: 979

استطاع الإنسان، بالعقل الذي ميزه الله سبحانه وتعالى به عن سائر مخلوقاته، أن يغير معالم الكرة الأرضية، وأن يبحر في مياهها، وأن يطير في أجوائها، بل أن يبدأ الخطى أيضا نحو التجول بين الكواكب القريبة منها. ولعل بين أهم خصائص تميز الإنسان قدرته على تنمية إمكاناته المعرفية وخبراته، وعلى تطوير مهاراته في التفكير ومحاكمة الأمور ورسم توجهات المستقبل، وعلى التعاون والشراكة المعرفية مع الآخرين، والحوار وتبادل الأفكار معهم، إضافة إلى تمكنه من الاستفادة من كل ذلك في التميز في العطاء، وتبادل معطياته مع ما يقدمه الآخرون، لما في ذلك من خير للجميع، وللمجتمع الإنساني وتطوره عبر العصور.
والإنسان الأكثر قدرة على العطاء، وعلى التميز فيه، هو الأكثر نجاحا في الحياة، وانطلاقا من ذلك هو الأكثر قدرة على الأخذ المحق من الآخرين، لأنه يعطي أكثر كما ونوعا. مثل هذا الإنسان رصيد لأمته، فإمكانات الأمة وقدراتها هي حصيلة إمكانات أبنائها وقدراتهم. وعلى ذلك، فإن جوهر تقدم الأمم وتميزها يكمن في بناء الإنسان، في بناء وعيه وتفكيره وإمكاناته ومهاراته، وتحفيز “الأنا الذاتية” فيه، في إطار “نحن الجامعة” الضامنة لمجتمع متعاضد متماسك، حاضن للتعاون “على البر والتقوى”، ومفعل “للحكمة” والخير للجميع ومن الجميع.
يحتاج الإنسان المتميز إلى الوعي في فهم قضايا الحياة، وفي استيعاب ما يجري من حوله، ولم يعد ما حوله محليا فقط، بل بات عالميا أكثر من أي وقت مضى. وليس الوعي أن نتلقى الأخبار ونتابع الأحداث، بل أن نفكر في الأمر أيضا تفكيرا سليما، يبحث في الأسباب ويفهم الأثر والتداعيات، ويتوخى “الحكمة” عبر توجهات موضوعية بعيدة عن “الهوى”. ولا شك أن الحوار مع الآخرين “كممارسة تفاعلية للتفكير” وسيلة مهمة من وسائل التفكير السليم والفهم المتكامل، والنظر إلى كامل مشهد الحياة من حولنا وسبر أغواره.
ولا شك أن “الممارسة التفاعلية للتفكير” في قضايا الحياة العامة “مسألة معرفية” تستحق الاهتمام من قبل مختلف المؤسسات المعرفية. ويبرز هنا “دور مهم للجامعات” فهي المسؤول الأول عن بناء الإنسان المتميز وتأهيله، ليس فقط في تخصصه، بل في قضايا الحياة من حوله أيضا، فخريجو الجامعات هم، على مدى حياتهم المهنية، قادة تخصصاتهم، ضمن بيئة الحياة وقضاياها، فلا انفكاك بين العمل التخصصي المهني، والبيئة الحاضنة له على مستوى المجتمع المحلي، وعلى المستوى الدولي أيضا.
وتهتم بعض الجامعات بالفعل بتدريب طلابها على الحوار و”الممارسة التفاعلية للتفكير” في قضايا الحياة العامة المختلفة، عبر مقررات خاصة إجبارية ضمن مقررات برامجها لدرجة البكالوريوس. وقد كانت لي تجربة شخصية في إحداها في بريطانيا، قبل عقود، حينما كنت أعد رسالة الدكتوراه.
كان هناك في الجامعة قسم يدعى “قسم الدراسات التكميلية” يقدم، لجميع طلاب البكالوريوس في السنة الأولى، مقررا مشتركا في “الحوار في القضايا العامة”؛ وكان لهذا المقرر أسلوب خاص في التنفيذ. كان طلاب المقرر يحضرون محاضرة واحدة أسبوعيا في القاعة الكبرى في الجامعة، التي كانت تستوعب أكثر من ألف طالب، وكان لكل محاضرة متحدث معروف في القضية العامة التي يطرحها. بعد انتهاء المحاضرة كان الطلاب ينقسمون إلى مجموعات، في كل منها “عشرة طلاب”، وكان لكل مجموعة “منسق” من أعضاء هيئة التدريس أو من طلاب الدكتوراه. وكنت منسقا لإحدى المجموعات.
كان المنسق يذهب مع مجموعته إلى إحدى القاعات الدراسية في “جلسة لمدة ساعتين” على طاولة مستديرة. وفي كل جلسة كان على المنسق أن يستعين بأحد الطلاب في إعداد محضر للجلسة. كانت الجلسة تبدأ “بالعصف الذهني” حول الموضوع، حيث كان على كل طالب، في بداية الجلسة، أن يعصف ذهنه ويقدم بسرعة فكرة أو أكثر، حتى إن لم يفكر فيها مليا بعد.
كان على المنسق، بعد ذلك، أن يقود نقاشا بين أعضاء مجموعته غايته اختيار جماعي لأهم الأفكار التي طرحت. ثم كان عليه أيضا أن يوجه النقاش نحو تحليل هذه الأفكار، مع الحرص على مشاركة الجميع في ذلك. وفي ختام الساعتين كان لا بد من إعداد تقرير مشترك باسم المجموعة حول ما تم في النقاش، بما في ذلك استعراض أفكار العصف الذهني، والأفكار المهمة المختارة منها، والعناصر التي وردت في تحليلها. وكان على كل طالب، على مدى أسبوع واحد، أن يكتب، في صفحة واحدة، تقريره الخاص حول المحاضرة وجلسة الحوار.
كان هذا المقرر محفزا ومثيرا للطلاب، في مختلف القضايا العامة التي يطرحها. وكان مستوى التحفيز والإثارة يتبع الموضوع المطروح، والمتحدث الذي قام بعرضه، وبيان آرائه فيه، كما يتبع أيضا الاهتمام الذاتي للطالب. ولم تكن غاية المقرر هي بيان القضايا المهمة فقط، بل كانت المشاركة المعرفية الفكرية التفاعلية للطالب هدفا مهما يسعى إليه، خصوصا في السنة الأولى من دراسته، حيث يمكن أن تنتقل مثل هذه المشاركة معه إلى المقررات التخصصية بعد ذلك.
ولعلي أذكر ثلاث قضايا عامة تم طرحها، ضمن المقرر، خلال الفترة التي أسهمت فيها في تنفيذه. إحدى هذه القضايا كانت “الحوار بين الشمال والجنوب”، أي بين الدول الغنية في أوروبا وأمريكا وربما بعض دول شمال آسيا أيضا، والدول الفقيرة في إفريقيا وجنوب آسيا وجنوب أمريكا. وكان المتحدث هو رئيس وزراء بريطانيا الراحل، المتقاعد في ذلك الحين، “إدوارد هيث”.
وكانت “سياسات التعليم” من القضايا العامة التي طرحت في المقرر أيضا، وكانت المتحدثة “شيرلي وليامز”، إحدى وزيرات التعليم سابقا، وهي عضوة مجلس اللوردات حاليا. كما كانت قضايا الصحة و”العادات الصحية” للفرد بين القضايا العامة التي طرحت أيضا، وكان المتحدث أحد الأطباء المرموقين في مجال طب العائلة.
نحتاج جميعا إلى الوعي العميق بالقضايا العامة التي تؤثر في حياتنا، وتلقي الأخبار والمعلومات عنها ليس كافيا، بل لا بد من التفكير فيها و”الحوار الموضوعي البناء بشأنها”، لما فيه خير الجميع، وخير المجتمع الحاضن للجميع. وللجامعات دور في ذلك، وكذلك للمؤسسات المعرفية الأخرى. وهناك تجارب سابقة في الموضوع، ليس علينا أن نقلدها، بل أن نسعى إلى الاستفادة منها، وأن يكون لنا دور رائد في هذا المجال في المستقبل.

المصدر : جريدة الأقتصادية - 10 نوفمبر 2016م