عبدالله المطيري- جريدة الوطن - جريدة الوطن

عدد القراءات: 2134
 

كانت وما زالت قيم التسامح والتعددية مطلبا لكل من يؤمنون بالحرية وبحق الإنسان، أيا كان، في الحياة الحرة الكريمة, جربت البشرية طويلا وعلمت علم اليقين معنى غياب التسامح والتعددية, التعصب والأحادية كانا باستمرار وقود الصراعات والحروب والظلم, التعصب والأحادية من آفات الإنسان التي فتكت به طويلا وما زالت تفعل ذلك.

ليس خطر التعصب والأحادية مقتصرا على الجماعات البشرية متجسدا في صراعات الحروب فقط بل إن خطرهما الأكبر يقع أيضا على الأفراد في تفاصيل حياتهم وفي حالات السلم الظاهرية, فالعلاقات الاجتماعية، في الأسرة والجماعات، في المؤسسات والمجال العام، حين تنطبع بطابع التعصب والأحادية فإنها تفتك بالجميع وتشوه العلاقات وتولد باستمرار أمراضا نفسية و اجتماعية خطيرة, إنها تزيّف الأشياء وتسلبها معناها, كم من الأحلام وئدت وكم من المواهب حطمت نتيجة التعصب والأحادية ! إن دمارا هائلا يجري كل يوم في بيئات التعصب وتكون المأساة أكبر حين لا يشعر بذلك إلا القليل.

يهدف هذا المقال للحديث عن هذين المفهومين، التسامح والتعددية، من أجل فهمهما قدر الإمكان ومن أجل التفريق بينهما أيضا وبيان الفارق في الدرجة بينهما ,وتستفيد محاولة التفريق هذه بين التسامح والتعددية من أطروحات الفيلسوف الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه صاحب كتاب ” الدين في الديموقراطية” وهو كتاب مترجم للعربية وصادر عن المنظمة العربية للترجمة حديثا, ترتفع عادة المطالبة بالتسامح بعد أن تنهك الصراعات الناس، ويروا أن خطرها يوشك أن يفتك بالجميع ويتسبب في القضاء على الكل, في ذلك الحين ترتفع الأصوات التي تطالب بالتسامح، بعد أن كانت خافتة ومحدودة الأثر, يبدو أن الإنسان يحتاج إلى الكثير من الصدمات والأخطار لكي يستيقظ من تعصبه, فالتعصب عمى وشلل للعقل والتفكير, كنت كثيرا أضرب مثالا أحاول منه أن أبين كيف يصبح التعصب عمى قاتلا من خلال التعصب الرياضي, فلو ذهبنا في ذروة أحدى المباريات المهمة بين فريقين متنافسين جدا وسألنا أحد المشجعين ولنفترض أن فريقه يخسر المباراة، وسألناه: لو أن مصيبة تحل بالفريق المنافس الآن وتقضي عليهم وتخلصك منهم فما رأيك؟ أنا متأكد أن هناك من المتعصبين من سيوافق ويزيد, تخيلوا كيف يتسبب تعصب رياضي في كل هذا فما بالك إذا بالتعصب الديني والعرقي، الذي فتك بالإنسان على طول التاريخ؟

في أوروبا وعلى خلفية الصراعات الدينية الرهيبة ظهرت المطالبات بالتسامح وبدأ التنظير له والتفلسف فيه من أجل وضع مفاهيم عامة تحدد معنى التسامح وتؤسس له وتحوله إلى ممارسة, ظهرت تاريخيا أعمال كبيرة مؤسسة للتسامح خصوصا في عصر التنوير وفلاسفته الكبار, ولعل جون لوك (1632ـ 1704) هو المثال الأشهر هنا, رفض لوك التعصب لسببين الأول أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ وبالتالي فكيف يسمح لنفسه بفرض آرائه على الآخرين, طبعا المتعصب يقول إنها ليست آراءه بل هي توجيهات الله وهذه حيلة قديمة ويمكن كشفها بسرعة,السبب الثاني لرفض التعصب أن فرض الأفكار لا يقنع الناس، قد يسكتون ولكنهم لن يقتنعوا بل سيؤدي الفرض بالقوة إلى نتائج معاكسة, خرجت لمقاومة التعصب أفكار إنسانية تجعل من الإنسان القيمة الأولى وهدف كل التشريعات, ظهرت مبادئ الحرية والفردية وتم وضع التشريعات القانونية التي تكفل ألا يحاول أحد في المجتمع، ولا الدولة نفسها، فرض أي شيء على الآخرين خارج نطاق القانون الذي وضع من أجل الحفاظ على حرية وفردية الإنسان وحمايته من تسلط الآخرين ووصايتهم عليه.

إذن التسامح هو موقف من المخالف، ينتج عنه الإقرار بحقه في ممارسة قناعاته وإن كنت أعتقد في داخلي أن قناعاته هذه خاطئة, التسامح هو مبدأ يعني أنه ليس من حق أحد أن يفرض رؤاه على الآخرين مهما كان موقفه منهم, التسامح يضع حاجزا بين اعتقادات الشخص الخاصة وبين الآخرين، هو مبدأ يجعله يفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص, الفضاء العام مشترك مع الآخرين أما الفضاء الخاص فهو للفرد ولا يحق لأحد تجاوزه, كان التسامح خطوة هامة في تاريخ الإنسان جعل من الخطر المحدق بحياته يتوارى ويختفي بعض الشيء، إلا أننا نستطيع أن نقول إن التسامح تم تجاوزه اليوم وصولا إلى التعددية التي هي أعمق بكثير من مجرد التسامح,

الفرق بين التسامح والتعددية كما يرى غوشيه أن التسامح يعني قبول الإنسان لوجود مخالفين له في الحياة المشتركة رغم أنه يعتقد في داخله أنهم على باطل وأنه يمتلك الحق الكامل, التعددية تقضي على الوثوق والأحكام المطلقة, إنها تدخل في معتقد الشخص ليتضمن في داخله ضرورة وجود الآخر المختلف وأن له بالضرورة نصيبا من الحق, يقول غوشيه ” لا أعني بالتعددية مجرد التسليم بالوجود الفعلي لأشخاص لا يفكرون مثلك، وإنما أعني بها أن يدرج المؤمن في عقيدته الخاصة الوجود المشروع لمعتقدات أخرى”صـ119.

التعددية بهذا المعنى هي ثمرة للنسبية، نسبية الحقيقة والمعنى, النسبية في المعرفة تعني أن الأفكار التي نعتقد بها هي بالضرورة نسبية ولا يمكن لنا أن ندعي لها الصحة المطلقة, إنها أفكار أنتجتها ظروفها وقدراتنا الخاصة، ولذا فهي تبقى صحيحة في إطارها الخاص ولكنها في إطارات أخرى أو في ظروف أخرى لا تبقى صحيحة بنفس الدرجة, على مدار التاريخ كان التعصب والتطرف ينتجان من أن الإنسان يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة, وفي هذه الحالة فإن من يختلف معه لا بد أن يكون خاطئا مطلقا, هذا الاعتقاد يجعل الإنسان يعطي نفسه حق التصرف بالتعديل والتبديل كما يرى, هذا الاعتقاد يجعله يقتحم ويتجاوز الخطوط الحمراء الكثيرة بينه وبين الآخرين, وباختصار فإن هذا الاعتقاد هو ما يجعل الإنسان يرتكب الجرائم ويريق الكثير من الدماء, لو لم يكن هتلر مقتنعا مئة في المائة بأن العرق الآري هو العرق الأفضل في العالم والذي يجب أن يسود لما سمح لنفسه بارتكاب كل ما ارتكبه من جرائم, ولو لم يكن الإرهابيون في الرياض يعتقدون أنهم على الحق المطلق لما استخدموا أنفسهم كقنابل, إذن المشكلة تكمن في الاعتقادات المطلقة والمغلقة,

اليوم ما زلنا نطالب بالتسامح وندعو له كخطوة أولى للتعددية، المجتمعات التي يدرسها غوشيه مرت بمراحل طويلة لم نمر بها حتى الآن, التسامح لا يزال مطلبا لم يتحقق, التسامح الذي يعني قبول المخالفين كشركاء في الوجود, القبول الناتج عن قناعة وليس القبول الناتج عن الخضوع للأمر الواقع، ولأن القبول الثاني سرعان ما يتفكك حين يحصل ظرف كبير يجعل من فرصة تغيير الواقع ممكنة كما نرى في العراق حيث اهتز جزء من التسامح السابق لينتج شلالات الدماء اليوم حين اهتز الأمن وضعفت الدولة.

المصدر : جريدة الوطن - 21 جماد الآخرة 1429هـ الموافق 25 يونيو 2008م .