قيم التعليم وقيم العمل
محمد أحمد الرشيد - جريدة الرياض
هذه النصوص وأمثالها تمثل إطاراً مرجعياً لقيم العمل في المجتمعات المسلمة التي على مؤسسات التعليم أن تزرعها في نفوس طلابها، ويجب على أفراد المجتمع أن يحتكموا إليها ويهملوا الأعراف التي تخالفها.
* اصطفى الله الإنسان من بين مخلوقاته وجعله خليفة في الأرض، وسخر له مخلوقاته ليعمر الأرض ولا يدمرها.
وبالسؤال عن لماذا المدرسة؟، ولماذا المعهد؟، ولماذا الجامعة؟ نجد أن السؤال يعود بنا إلى الأصول ومناقشة ما يعتبره البعض “بدهيات” عن دور المؤسسات التعليمية لا تحتاج لإعادة قول أو مناقشة. مع أن هذه البدهيات ومنها دور المؤسسات التعليمية في إعداد الإنسان هي التي تنسى في غمار الحياة اليومية وتراب معاركها الجزئية.
إن الهدف من المؤسسة التربوية التعليمية هو: “إعداد الإنسان وتهيئته ليكون الخليفة في الأرض” وعلى المؤسسات التعليمية أن يكون هذا الهدف هو المحك الذي بموجبه تقيس مدى إسهام ما تقدمه من برامج تعليمية ومناهج تربوية ودروس نظرية وعملية لإعداد الإنسان لتلك المهمة الخطيرة طبقاً للقيم التي يعتز بها المجتمع.
فالتعليم – عندنا – يعتمد في قيمته وقيمه على أهدافه، والهدف – حتى يكون ذا قيمة عليا – يجب أن يكون:-
” عاماً لكل الناس.
شاملاً جوانب الحياة جميعاً.
مؤدياً إلى التوازن والتوافق، وعدم التعارض بين الجوانب المختلفة.
مرناً، مسايراً لاختلاف الظروف والأحوال والعصور والأقطار.
صالحاً للبقاء، والخلود، والاستمرار، والرسوخ.
مناسباً للكائن الإنساني، موافقاً لفطرته من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في جماعة.
غير متجاف عن الحقائق الأخرى ولا متعارض مع الحق.
خصباً تتولد عنه الثمرات الطيبة، متوافقاً، غير متصادم مع المصالح المختلفة؛فيسد حاجات الناس، ويواجه الحالات التي تعرض لهم.
واضحاً في الفهم، يقبله ويفهمه المربي والطالب جميعاً.
واقعياً ميسراً في التطبيق، مؤثراً في سلوك المربي والطالب وهما يسيران في إنجاز العملية التربوية”.
لذا فالهدف الرئيسي – طبقاً لمواصفات القيم العليا من التعليم العام – هو الإسهام – مع وسائل التربية ووسائط التأثير الأخرى – في إعداد الإنسان الصالح،والمواطن الصالح.
والإنسان الصالح – عندنا في بلادنا – هو الإنسان المؤمن بربه، المطيع له، المؤدي لما كلفه به، المتجنب لما نهاه عنه، المدرك للمعاني الكثيرة لاستخلاف الله للإنسان في الأرض، والمستشعر لعظمة رسالة الإسلام، والمتشرف بمسؤوليته تجاه الدعوة إليه والدفاع عنه.
وأما المواطن الصالح فهو الذي يعرف حق أولي الأمر عليه، وحق وطنه عليه، ويعتز بالانتماء إليه، ويدرك أن هذا الوطن – بقدر ما يسعه – يسع إخوانه فيه، وأن لهؤلاء حقوقاً، أقواها: حق القرابة القريبة، وحق أولي الأرحام، ثم هي تتدرج حتى تصل إلى حقوق ضيوف الوطن، وبين أعلى درجاتها وأدناها درجات متعددة للجيران والزملاء والأصدقاء وغيرهم من الناس جميعاً.
والمواطن الصالح يعرف أنه ينتمي إلى الوطن العربي بدوله المتعددة، وأن بلاده جزء رئيسي منه، كما يدرك أهمية البلاد الإسلامية بالنسبة لوطنه، وأن ما يقع على الوطن العربي والبلاد الإسلامية يؤثر عليه ويتفاعل معه فيُسرّ بما يسرها، ويقدّم العون لتخفيف ما قد يصيبها.
والمواطن الصالح – أيضاً – يعرف أن الناس لا يصلحون فوضى لا سراة لهم ولا بد لهممن نظام يجمعهم، ورابط يوحد جهودهم لخدمة الوطن، وأن هذا النظام وتلك الرابطة لها حق الطاعة في المعروف، والنصح عند الحاجة إليه، وأن آخر أمرها لا يصلح إلا بما صلح به أولها: طاعة الله ورسوله، ويدرك هذا المواطن أنه مطالب بالإسهام في إنماء وطنه وتطويره، وأنه يجب عليه الذود عنه في وجه عدوه والخارجين على نظامه.
كما يدرك المواطن الصالح خصوصية موطنه، وأن الله شرف بلاده باحتضانها أشرفالبقاع عنده، وأن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام آخر رسل الله بُعث من هذه البقاع،وأن القرآن آخر كتب الله المنزلة جاء باللغة العربية. فأصبح لهذه اللغة الفضل علىما عداها فهو يعتز بها ويدرك سموها.
وعلى هذا فإن المؤسسات التعليمية ترجع إلى هذه الأهداف في كل منهج دراسي تضعه،وعند إعدادها المعلم والقيادي التربوي، ويقاس نجاحها في مخرجات التعليم بمدى تحقق تلك الأهداف المنبثقة من المرجعية القيمية.
كما أن مرجعية التعليم العالي تعتمد – في المقام الأول – على تعزيز قيم التعليم العام وأهدافه، ثم إنه (أي: التعليم العالي) مرحلة تخصصية، تؤهل للمهن، ومؤسساته كافة تسهم في إعداد ما يتطلبه سوق العمل من قيادات وقدرات ومهارات وكفايات بشرية فيشتى المجالات مهما كثر عددها وتنوعها.
ومؤسسات التعليم العالي كافة مرجعيتها القيمية – بالإضافة إلى ما ذكر – تكمن في إسهامها الفعال، ودورها الرئيسي في تقدم الوطن وازدهاره وتفوقه، وذلك عن طريق التعليم التخصصي المتجدد، والمتنوع حسب حاجة سوق العمل، وفي إجراء البحوث العلمية الموجهة لتأمين احتياجات الوطن وعلاج مشكلاته، وتطوير مؤسساته الإنتاجية الزراعية،والاقتصادية، والتجارية، والصناعية.
مؤسسات التعليم العالي عليها أن تقود عملية التطوير في الوطن، وتعمل على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح في المجتمع، ساعية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتأمين المواطنين المختصين المهرة للعمل في القطاع الحكومي والأهلي على تنوعه وتعدده.
وفي كل الحالات فإن التعليم – على اختلاف مستوياته ومراحله، وأنواعه – لا بد أن يتوافر فيه ما يأتي:-
– أن يكون تعليماً نافعاً.
– أن يكون حقاً للجميع، بل واجباً عليهم.
– أن تقوم به الدولة خدمة للأفراد.
– أن يكون دائم التطور والتحديث في مناهجه ووسائله، يلائم متطلبات العصر وحاجات المتعلم.
– أن يكون مستمراً: “اطلب العلم من المهد إلى اللحد”.
– أن يكون مهيئاً للعمل، حافزاً على الطموح.
– أن يقدم لكل فرد ما يناسب قدراته وميوله.
– أن يشجع على التفكير والإبداع، والحوار، وقبول الرأي الآخر.
– أن يكون حافزاً على الجد والإنتاج.
– أن يراعي الفروق الفردية، وتتحقق فيه ومن خلاله العدالة دون أي تفرقة بين المتعلمين أو محاباة لبعضهم على حساب الآخرين.
كما أن المؤسسات التعليمية عليها أن تعد الإنسان للعمل حسب قيمه في معتقداتنا فقد بيّن الإسلام فضل الكسب، وفضل الاحتراف، وحث عليهما:-
قال الله تعالى مبيناً أن (المعايش) نعمة يجب أن تشكر: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون)، وقال في سورة الجمعة بعد أن أمر المسلمين بترك البيع والشراء (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة)، وقال: (.. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله..).
أما الأحاديث فمنها: “التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء”.
وفي الصحيحين: “لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خيرٌ من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه”.
وقال عمر رضي الله عنه: “لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني! فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة”.
ثم إن العمل والتكسب والاحتراف طريق المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
فآدم عليه السلام عمل في الأرض بعد أن أُخرج من الجنة، ونوح عليه السلام كان نجاراً يأكل من كسبه، وإدريس عليه السلام كان خياطاً، وداود عليه السلام كان يصنع الدروع ويبيعها، ويأكل من ثمنها ويتصدق، بعد أن علمه الله صناعتها وألان له الحديد،ونبينا صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وقال: “.. ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم” البخاري، وكان في تجارة خديجة رضي الله عنها، وكان شريكاً للسائب ابن أبي السائب رضي الله عنه.
هذه النصوص وأمثالها تمثل إطاراً مرجعياً لقيم العمل في المجتمعات المسلمة التي على مؤسسات التعليم أن تزرعها في نفوس طلابها، ويجب على أفراد المجتمع أن يحتكموا إليها ويهملوا الأعراف التي تخالفها.
وهكذا يمكننا أن نضع للعمل الضوابط الآتية:-
– أن يكون عملاً مباحاً نافعاً، ويسد حاجة للبشر، أو لسائر المخلوقات.
– أن يكون ذا قيمة، وله مردود على اقتصاد الوطن.
– أن يوظف المواطنين ويطور أداءهم بالتدريب المستمر.
– أن يستثمر الخامات المحلية.
– أن يسهم في حماية البيئة ويصونها من التلوث.
– أن يكون متقناً، وجودته عالية.
– ألا يستغل حاجة ذوي الحاجة في إعطائهم أجراً أقل مما تقضي به الأعراف المنسجمة مع الأخلاق الفاضلة.
– أن يعطي الأجير (أو الموظف) أجره في الموعد المحدد دون تأخير.
– أن تتحقق فيه الأمانة، فلا غش ولا تدليس: وفي الحديث الشريف: “من غشنا فليسمنا”.
– أن يؤدى دون نقص، ولا اختلاس.
– أن يتحقق فيه الانضباط بما في ذلك التقيد بمواعيد العمل المقررة.
ومعروف أن كثيراً من المهن والحرف يؤدي أصحابها قَسم على الالتزام بأخلاقها، مثل مهنة الطب، والقضاء، وقد وفق الله قيادتنا الرشيدة بإقرارها وثيقة “أخلاق مهنة التعليم” وهي خاصة بالذين يتولون القيام بالتربية والتعليم في المدارس والمعاهد.
وهكذا نجد أن مؤسسات التعليم على اختلاف مراحلها مسؤولة عن إعداد الإنسان للعمل المنتج لتعمير الكون كما سخره الله للإنسان، وكل تعليم لا يقود إلى تطوير البشر وتنمية مهاراتهم وقدراتهم تعليم عديم الجدوى – التعليم وسيلة لا غاية – وعلينا أن نوظف الوسيلة في سبيل الغاية النبيلة.
وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.
المصدر : جريدة الرياض -