عبدالله مناع - جريدة الوطن

عدد القراءات: 2374

بعد أن نشرت صحيفة الوطن يوم الاثنين ما قبل الماضي ملخصاً صحفياً ملفتاً عن أول تقرير يصدر عن “اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان”.. شاءت المصادفات أن يصلني” النص الكامل” للتقرير عن طريق إذاعة البرنامج الثاني من جدة، تمهيداً لمناقشته مع نخبة من المعنيين من الجنسين.. وعلى الهواء مباشرة في برنامج “الساحة الحوارية”، الذي يعده الإذاعيان: الأستاذة دلال ضياء، والأستاذ محسن العتيبي، ويخرجه الأستاذ سعد المحياوي… وقد أذيعت فعلاً الحلقة الأولى من البرنامج في العاشرة من مساء يوم السبت الماضي، على أن تستكمل.. إذاعة بقية الحلقات عند تسجيلها في الأسابيع الثلاثة أو الأربعة القادمة، حتى تتم مناقشة كل ما جاء في تقرير اللجنة الطويل جداً، والمثير لوعي وانتباه قارئه دون شك.. لتتبعه لحقوق الإنسان الأساسية في المملكة، ولحقوقه المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، ولحقوق المرأة والطفل والسجناء والعمالة الأجنبية، ولمحاولة حصره للمخالفات والانتهاكات التي حدثت لكل تلك الحقوق طوال الثلاث السنوات الماضية التي تمثل عمر اللجنة.! لقد أثارني بداية طول التقرير.. فهو يقع في سبع وأربعين صفحة من حجم”الفولوسكاب”..بـ” مقدمته”و” خاتمته” وفصوله “الستة” التي تتناول” الإطار القانوني لحقوق الإنسان في المملكة”، فـ” حقوق الإنسان الأساسية” فحقوق الإنسان “المدنية” فحقوق الإنسان “السياسية” فحقوق الإنسان “الاجتماعية”و”الثقافية”.. فحقوق الإنسان لبعض الفئات الاجتماعية في المملكة، وهو ما استدعى بالضرورة إلى ذاكرتي حجم وثيقة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” المكونة من ثلاثين بنداً والمتضمنة لكامل حقوق الإنسان الأساسية الأربعة( حقه في الحياة، وفي الحرية، وفي أمنه على نفسه من الإيقاف التعسفي والنفي، وحقه في محاكمة عادلة علنية من قضاة محايدين)، ولحريات الإنسان الأساسية الأربع( حرية التفكير، وحرية الدين، وحرية الضمير، وحرية تأسيس جمعيات مسالمة).. بما أضيف لها فيما بعد من حقوق أساسية أربعة، هي( حقه في العمل، وفي التأمين الاجتماعي، والتعليم، والمشاركة في الحياة العامة والأنشطة الفنية والعلمية)، والتي تم إقرارها في العاشر من ديسمبر من عام 1948 من قبل دول العالم أجمع باستثناء ثماني دول.. والتي أمكن إعادة نشرها في ربع صفحة من صفحات الصحيفة اليومية العادية، إلا أنني التمست العذر للجنة وأعضائها ورئاستها في هذه الإطالة بعد أن قرأت التقرير على مدى يومين متصلين، فهو يتحدث في كل فصل من تلك الفصول الستة.. عن الإطار الشرعي والقانوني لكل حق من تلك الحقوق الإنسانية التي تناولها التقرير.. ثم يتتبع ما حدث لذلك الحق خلال السنوات الثلاث الماضية، بشمولية كافية وبقدر لا بأس به من الشفافية، على أن الأهم من ذلك.. أن التقرير لم يكن كما كنت أتوقع”دشاً”و” تطييباً”و” طبطبة” على الأكتاف تعبيراً عن الرضا والقناعة والسعادة بالمسار الناجح والعظيم لحقوق الإنسان فقد حصر الكثير من المخالفات والانتهاكات وعددها وسمى الأشياء بأسمائها وإن نسي بعض تلك الانتهاكات سهواً أو قصداً، أو أنه لم يعلم بها حقيقة، وهو الأمر الذي يرفع من قدر التقرير ومصداقيته واحترامه بالتالي في الداخل والخارج..! ولأن التقرير على هذا القدر من الإطالة، ولأنني ناقشت على الهواء مباشرة وبقدر كاف من الشفافية- فيما أظن- مع الدكتور صالح الخثلان- عضو الجمعية رئيس لجنة الربط والمتابعة بها- بعض ما جاء في التقرير كـ”حق الإنسان في الحياة”و” الحق في المساواة” و”الحقوق السياسية للمواطن”.. مع استنكاري لتناسي التقرير لموضوع الأحكام التعزيرية القاسية والمبالغ بها بجلد المحكوم عليهم ثلاثمئة وخمسمئة وأحياناً ألفاً وألفي جلدة، فإنني سأكرس هذا المقال للتعليق على جزء مما جاء في تقرير اللجنة حول”حقوق الإنسان السياسية في المملكة”.. وهو الخاص بـ”الحق في حرية الرأي والتعبير” لأهميته التي لا تدانيها أهمية، ولاتصاله بحياة الناس اليومية.. فهو كحق استقلال القضاء، والادعاء العام وكحق المساواة.. إذ لا تستقيم أمور الأوطان إلا به، فـ”حرية الرأي والتعبير” بكشفها الحقائق ومجاهرتها بالرأي الصادق الخالي من الزيف والنفاق هي صمام أمان لوحدتنا الوطنية.. وهي التي تحفظ المساواة، وتدفع مشاعر الغبن، وتدافع عن حقوق الإنسان، وتحاصر الفساد والمفسدين.. لأن الخشية من فضح الإعلام بوسائله المختلفة لكل الممارسات السلبية التي يرتكبها أو يتورط فيها المسؤولون وغيرهم جهلاً أو غروراً وتعمداً.. هي إحدى أنجع الوسائل وأنجحها في منع الفساد بأطياف ألوانه المختلفة وجرأة استشرائه. ولعلنا نذكر ما قاله- في هذا الصدد- السياسي الأمريكي القديم ألكسندرهاميلتون.. عند مناقشة وثيقة الاستقلال الأمريكية التي كان يعدها توماس جيفرسون جواباً على سؤال طرح في أثنائها: أتريدون دستوراً عظيماً.. أم صحافة حرة؟ فكان جوابه: بل نريد صحافة حرة.. لتعطينا دستوراً عظيماً..! وللحق.. فقد أشار التقرير بداية إلى أن الحق في حرية الرأي والتعبير عنه”يعد من أهم الحقوق المدنية والسياسية، وغيابه أو تقييده يتسبب في تعرض بقية الحقوق إلى الانتهاك”، وأن”حرية التعبير عن الرأي مكفولة بمختلف وسائل النشر في نطاق الأحكام الشرعية والنظامية”، إلا أنه عبر وبشجاعة تحسب له عن خشيته من تلك”الضوابط” التي وضعها النظام حول هذه الحرية بما يعطي”الأجهزة ذات العلاقة هامشاً واسعاً للتدخل في وسائل الإعلام” ويجعل ذلك عرضة للاجتهادات الفردية والأهواء الشخصية”!! وبالرغم من أن التقرير أشاد بصفة عامة بالإعلام السعودي الذي”شهد درجة من الانفتاح ظهرت في تحسن تغطية الصحف للقضايا العامة سواء من حيث مستوى الشفافية أو التطرق إلى مواضيع وقضايا كان النشر عنها محظوراً في السابق”،و”أن القارئ للصحف السعودية يلمس شفافية في نوعية المواضيع والآراء المطروحة في الصحافة”.. إلا أن التقرير لم يتردد في الكشف وبجرأة- يحمد عليها- عن موقفه من ذلك التباين في الشفافية بين ما يسمح به وما لا يسمح بنشره في الصحافة.. قائلاً: إن تباين مستوى الشفافية بين الصحف المحلية، يؤكد اعتقاداً سائداً بأن رئاسة التحرير قد تكون مسؤولة نسبياً عن مساحة التعبير الحر، وهو ما يذكرني ببعض زملائي من رؤساء التحرير الذين كانوا يخشون من قراءة مقالات بعض الكتاب.. وليس نشرها لينتهي التقرير إلى القول في ختام هذه الفقرة بـ”أن هذا يقصد التباين يدفعنا إلى دعوة رؤساء التحرير إلى إتاحة الفرصة لممارسة حق التعبير عن الرأي إلى المدى المتاح الذي تكفله الشريعة الإسلامية”، ويبرئني في ذات الوقت دون قصد من إحساسي بظلم زملائي عندما كنت أقول بأن الأكثرية منهم تسمح بمرور تلك الآراء والكتابات التي تتحدث عن البلديات أو المرور وبطولة الدوري أو الكأس أو غلاء المهور وارتفاع أسعار المواد الغذائية.. وما شابه ولكن ليس إلى ما فوق ذلك.. واسألوا الإعلاميين والصحفيين والكتاب الموقوفين الذين أشار إليهم تقرير الجمعية؟ لقد كان التقرير شجاعاً في حديثه عن حرية الرأي والتعبير في صحافتنا إجمالاً، وكان دقيقاً وهو يروي تجربة الجمعية نفسها مع تبايناتها بين السماح وعدمه، فعندما بعثت الجمعية إلى الصحف ببيان لها حول موقف الجمعية من الأعمال الإرهابية وكيفية معالجتها.. نشرته الصحف بطريقة مقتضبة ومنتقاة تسببت في تشويه موقف الجمعية، أما عندما بعثت الجمعية إلى وكالة الأنباء السعودية والصحف المحلية ببيان لها حول ما تعرضت له بعض مناطق المملكة من سيول جارفة تسببت في الكثير من المضار والخسائر، وأشار البيان إلى تقصير بعض الأجهزة الحكومية الذي زاد من الأضرار، وطالب بتحميل هذه الأجهزة مسؤوليتها تجاه المواطنين.. فقد تلقت الجمعية مفاجأتها الكبرى، إذ إن كافة الصحف أحجمت عن نشر البيان..!! لكن تقرير الجمعية ظل أميناً في حديثه عن الحق في حرية الرأي والتعبير.. ومنصفاً مع الصحافة التي تنتقي بعض ما يعجبها وتمتنع عن نشر ما لا يعجبها من بيانات الجمعية أو تصادرها بالمنع إجمالاً، عندما أشار إلى نشر الصحف للبيان الذي أصدرته الجمعية وأبدت فيه” استياءها من منع رئيس المحكمة الكبرى بالرياض ممثلي الجمعية حضور جلسة النطق بالحكم في قضية سجناء الرأي، وما في ذلك من مخالفة صريحة لنظام الإجراءات الجزائية.. حيث تنص المادة (182) على أن (يتلى الحكم في جلسة علنية ولو كانت الدعوى نظرت في جلسات سرية)”! إن الحق في حرية الرأي والتعبير الذي فصله تقرير الجمعية الأول بأقصى ما يستطيعه من جرأة وشجاعة.. سيعيد إلى ذاكرة الأجيال- والشابة منها على وجه الخصوص- ما خبا وتوارى من ذلك الحق تحت عشرات الأغطية باختلاف أنواعها.. بما يمكنها والمجتمع بكل فئاته ومثقفيه وصحفييه وإعلامييه وأصحاب الرأي فيه من أن يقولوا: لا.. لأعداء المساواة، ولا ..لدعاة التفرقة، ولا للظلم، ولا للفساد والمفسدين.. ربما إلى ذلك الحد الرائع الذي قال عنه الشاعر المصري العربي الكبير الراحل أمل دنقل: من قال لا في وجه نعم من علم الإنسان تمزيق العدم من قال لا فلم يمت وظل روحاً عبقرية الألم .. لأن الأضرار في تجاوز هذا الحق أو قمعه.. أكبر بكثير من مخاطر القبول به فعلياً، وترويجه، وإشاعته بين الناس.. لأنه في مقدمة سبل الإصلاح التي يدعو لها رأس الدولة صباح مساء. وبعد.. فلولا معرفتي بمشقة نشر تقرير بهذا الطول.. لطالبت الصحف بنشره كاملاً..

المصدر : جريدة الوطن -