محمد المختار الفال - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1396

كتبت في هذه الصفحة قبل أكثر من عشرة أشهر تحت عنوان “حقوقكم,, كيف تحافظون عليها” بمناسبة إصدار الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان تقريرها الأول الذي لقي قبولاً واستحساناً من الكثيرين، لأنه التزم بالتقاليد المتعارف عليها في إعداد التقارير وحرصه على معايير الحياد والموضوعية والإحاطة بالجوانب الإيجابية والسلبية لواقع حقوق الإنسان في المملكة, وأشرت إلى أن ذلك التقرير تضمن معلومات ومفاهيم استندت إلى القوانين والأنظمة المحلية والاتفاقيات الدولية إلى جانب رصد الوقائع من الميدان والشكاوى والتظلمات, وتوالت جهود الجمعية في مجال إشاعة ثقافة الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع وأصدرت كتيبات تدعم هذا الاتجاه منها: “حقوق المتهم” الذي يلخص حقوق المتهم أثناء القبض عليه والتحقيق معه وتفتيش منزله أو مكتبه أو أشيائه الخاصة، كما بسط القول حول حقوقه عند المحاكمة وتوضيح ما له وما عليه, ومما قلته في ذلك المقال إن تسليط الأضواء على القضايا الحقوقية ومساندة المعنيين بها من أصحاب الفكر والاهتمام بمناقشة مدى تطبيق الأنظمة على أرض الواقع ونقد الجهات المسؤولة عن التباين بين ما تقرره القوانين والأنظمة الصادرة عن الدولة وبين ما نراه من تطبيقات خاطئة في الأجهزة التنفيذية كل ذلك يصب في وعاء العدالة, وإن سوء التطبيق والإصرار عليه من بعض الجهات لا يعني أن تثقيف الأفراد بحقوقهم ليس له جدوى, وقلت إن التزام الأجهزة التنفيذية بالمحافظة على حقوق الإنسان والتزامها باتباع القوانين مع تثقيف أفراد المجتمع بحقوقهم سيساعد على تحسين أداء تلك الأجهزة لأنها – في النهاية – مكونة من أفراد هذا المجتمع الذي بات يعرف حقوقه وواجباته, وإن المجتمع الذي اعتاد أفراده حماية حقوقهم يصبح إعطاء الآخرين حقوقهم والمحافظة عليها مبدأ أساسياً في سلوكه العام، وهذا يقلل من المظالم المرتكبة ويخفف العبء على أجهزة العدالة .

***

هذا بعض ما ورد في المقال المشار إليه، أستحضر اليوم، معانيه وموضوعه الخبر المنشور في “الاقتصادية” يوم الاثنين الماضي من أن المحكمة الإدارية في جدة أصدرت حكماً يقضي بإلزام وزارة الداخلية بدفع مبلغ مليوني ريال لمواطن وزوجته وطفله تعويضاً عن احتجاز الأجهزة الأمنية لهم لأكثر من عامين دون ارتكابهم جرائم تستوجب التوقيف حسب الأنظمة الجزائية المعمول بها, ويقول الخبر إن وكيل المواطن قد ترافع أمام ديوان المظالم طالباً التعويض لموكليه بعد أن أبلغتهم الجهات الأمنية أن قضيتهم حفظت وأطلق سراحهم بناء على توجيه من وزير الداخلية وإن رغبوا في التعويض فعليهم التوجه إلى الجهات القضائية, الخبر المنشور فيه إشارات تتعلق بالأسباب التي دعت الأجهزة الأمنية إلى توقيف المواطن وزوجته وسير القضية ومعاملتها وانتقال الموقوفين بين منطقة عسير وجدة , وقال مندوب الداخلية إن جهات الاختصاص أصدرت قرارات سابقة بخصوص القضية ومنها إحالة ضابط برتبة مقدم في شرطة جدة إلى المجلس التأديبي العسكري لمحاكمته مسلكياً

***

هذه الواقعة تستحق – في رأيي – وقفات: أولاها تأكيد معنى إشاعة ثقافة معرفة الحقوق والواجبات وأهمية المبادرة إلى المطالبة بها، لأن في ذلك – إلى جانب تحصيل الحق للمتضرر – حماية آخرين لم يلحقهم الضرر بعد، حين يدرك المخطئون من الأجهزة التنفيذية أن هناك مطالبة وأن هذه المطالبة ستلقى آذاناً صاغية لسماعها وقبول المنطقي منها وحماية الحق لأصحابه ودفع الضرر عن المتضررين, والوقفة الثانية فيها التقدير والاحترام للمحكمة الإدارية في جدة وقضاتها الذين أصدروا حكمهم على جهة تنفيذية مطبوع في أذهان الناس أنها لا تسأل عما تفعل وأن منسوبيها خارج دائرة المساءلة , وفائدة هذا الحكم ليس فقط في رد الظلم وزيادة الثقة في جهاز العدالة، بل فيه تحسين لصورة الأجهزة الأمنية وإزالة الانطباع “المتوهم” بأن لديهم حصانة تحميهم من المساءلة حتى عند الخطأ وارتكاب مخالفات قانونية , والوقفة الثالثة التأكيد على أهمية دور المحامي واعتباره عنصراً أساسياً في الجهاز “العدلي” فهو الجهة القادرة على مساعدة القضاة في تلخيص – بصورة قانونية – وتكييف موقف المتظلم وإيضاح حجم الأضرار التي تقع عليه, والوقفة الرابعة هي أن مجمل هذه القضية – حتى الجانب السلبي فيها – يضيف إلى الوطن معنى إيجابياً يدحض الكثير مما يقال عنه، فبلادنا – مثل كل بلدان العالم – فيها أخطاء ومخطئون، وهذا شيء طبيعي ولكن لدينا – مثل غيرنا – وسائلنا لمعالجة أخطائنا, وإذا أخذنا هذه الحادثة نموذجاً يمكننا أن نقول: إن جهازاً تنفيذياً أخطأ في حق مواطن، وإن هذا الجهاز أصدر قراراً لمعالجة الخطأ وإحالة المخطئ إلى المحاكمة وفقاً للنظام الحاكم لأفراد هذا الجهاز وإن المواطن المعتدى عليه لجأ إلى العدالة من خلال محاميه وإن العدالة أنصفته وأصدرت حكمها بتعويضه وإن صحافة الوطن نشرت القصة كاملة سلبيّها وإيجابيّها, هذه الصورة يمكن أن نراها ونسمعها في أي بلد دون أن نحملها أكثر مما تحتمل .

***

سيقول البعض: هل كتبت لتقول لنا إننا بخير وإن الأخطاء المرتكبة من الأجهزة التنفيذية في حق المواطن تعالج بهذه الصورة “الوردية” التي قلتها؟ , وحتى لا تمتد الأسئلة والألسنة أقول: بالتأكيد لا, الذي أريد أن أقوله،إن لم يفهم مما سبق، هو أن التحسن المطرد في حماية حقوق الإنسان في بلادنا يحتاج إلى جهود المواطنين أنفسهم، المتمثلة في حرصهم على معرفة ما لهم وما عليهم وعدم التهاون أو الاسترخاء في المطالبة به من خلال القنوات النظامية ووفق القوانين والإجراءات المعمول بها، وأن هذا الإصرار والمداومة سيحسنان من أداء كل الأجهزة التنفيذية والقضائية, هذا باختصار ما أريد قوله, وأعتقد أنه مما يضيف إلى حسن الصورة أن نثمن ونقدر الإيجابيات التي تظهر في أداء كل الجهات، فلا خصومة بين المواطن وأجهزة بلده فهو جزء منها وهي كل منه .

المصدر : جريدة الوطن -