حقوق الإنسان.. الثقافة الغائبة وتأسيس الوعي
كلمة الاقتصادية - جريدة الاقتصادية
لا شك أن ثقافة حقوق الإنسان تعتبر ثقافة جديدة بالنسبة لمجتمعنا، نتحدث عنها كنظام مؤسسي لا كحقوق لأنها موجودة بالتأكيد وحاضرة في صلب شريعتنا الإسلامية التي يحتكم إليها النظام في الوطن. لكنها على صعيد النظام المؤسسي تبقى في خانة المجهول بالنسبة للكثيرين، حيث تؤكد بعض الدراسات أن (94 في المائة) من المواطنين لا يعرفون شيئا عن حقوق الإنسان، وهي نسبة منطقية جدا بالقياس إلى العمر الزمني لهذا النظام الذي لا يزال في بواكيره الأولى، لكن السؤال يبقى حول الخطط التي أعدتها الهيئة لبث هذه الثقافة، والآليات المرشحة لإيصالها للناس كثقافة عامة ومتاحة للجميع.
وإذا ما كانت أكثر الأصوات تطالب بإدخالها ضمن المنهج المدرسي وهو كما نعلم منهج مثقل بالكثير، ولا يكاد يستوعب المزيد من الأحمال الإضافية في وعائه الزمني المتاح، خاصة إذا ما وضعنا هذا مقابل نداءات أخرى تطالب بمواد مماثلة للتثقيف الصحي والمروري ومحاربة المخدرات وغيرها مما يشعر الكثيرون بأنها تحتاج إلى أن تستثمر المنهج لتدخل إلى منظومة الحصانات التي يتمناها الناس، لذلك وفي ظل عدم وجود جمعيات أو هيئات تطوعية تمتهن التوعية كرسالة اجتماعية ووطنية، وتسهم في معاضدة هيئة حقوق الإنسان في تبني مشروعها، فإن القناة الوحيدة المخولة لهذا الدور هي الإعلام بمختلف وسائله لإيصال هذه الرسالة التي لا تزال يلفها كثير من الضبابية، وعدم وضوح الرؤية، مما أشغل الهيئة، وملأ أضابيرها بقضايا إدارية كان من المفترض أن يحسمها النظام الإداري وفق الأنظمة المعمول بها. لأنه متى ما تحولت الهيئة إلى جهاز للفصل في الخلافات الإدارية والعمالية .. فإنها ستغرق في بحر متلاطم الأمواج من المشكلات التي يُفترض أن توكل إلى المحاكم الإدارية والعمالية، وستنصرف عن دورها الرئيس في ملامسة قضايا الإنسان الحقوقية كقضايا العنف الأسري، وقضايا العضل، وقضايا امتهان حقوق الطفولة، وزواج القُصّر وما إليها.. مما لا ينتظمها نظام واضح.
إن غياب ثقافة حقوق الإنسان عن وعي الجماهير، مع بقاء العنوان .. سيفضي بهذه الهيئة الوليدة إلى جهاز غير قادر على الحركة، في ظل استخدامه أو توظيفه كمرجعية لفض الخلافات ذات الطابع الإداري، وسيصيبها بقصر النظر عمّا يُفترض أن تلتفت إليه، مما ربما لا يجد من يتبناه كقضية، على اعتبار أنه جزء من الأعراف السائدة كقضية (التحيير) مثلا، وهي قضية لا تزال قائمة في بعض المجتمعات البدوية، لكنها لا تجد من يتصدى لها، لأنها لم تتحوّل إلى شكوى مكتوبة بحيث يتم تداولها أو عرضها.
هذه مجرد أمثلة، ومجتمعنا يكتظ بكثير من القضايا الإنسانية ذات الطابع الاعتسافي التي تمارس إمّا تحت عنوان العادات الاجتماعية وإما ما يُعرف بـ (السلوم).. أو بدعوى الولاية المطلقة، وفيها من الضير ما يستدعي قراءتها وإعادة النظر فيها كقضايا حقوقية ملحة.
من هنا يترتب على الهيئة ألا تكتفي بما يرد إليها في مكاتبها، وإنما يجب أن تبدأ ـ إن لم تكن قد بدأت بعد ـ بإجراء مسوحات ميدانية لاستقصاء تلك الحقوق المنتهكة، ودراسة جذورها وأسبابها على أيدي خبراء في علم الاجتماع الحضري والبدوي، وعلم السكان (الأنثروبولوجيا) لتشكيل قاعدة معلومات دقيقة، يُمكن أن تؤسس لخريطة طريق.. تستطيع بواسطتها رسم برامج وأهداف توعوية وتثقيفية أولا لتبصير تلك المجتمعات بها، وبالتالي العمل على معالجتها .. لأنه ما لم تتأسس ثقافة حقوقية مبنية على معلومات دقيقة مستقاة من الواقع، فإن كل الجهود مهما كانت ستضيع في مهب الريح، ولن يكون لها من الصدى ما يعزز من قوة حضورها. خاصة أن منسوب الوعي الثقافي عموما لدى تلك الشرائح التي تنتشر في أوساطها مثل هذه القضايا، هو في الأساس منسوب متواضع، ويخضع تماما لسلطة العادات أكثر مما يخضع لأي سلطة أخرى.. ما يجعله عصيا على القبول بمثل هذه الطروحات التي تفتح الأعين المغمضة.
المصدر : جريدة الاقتصادية -