خالد عبدالعزيز النويصر - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1728

دينا مشكلة حقيقية وكبيرة ومهمة تكمن في تراكم وازدياد عدد القضايا والدعاوى التي تُقام وتُنظر من قبل المحاكم ويتأخر البت فيها، مما أثر بشكل أو بآخر على الحركة التجارية والاستثمارية المرتبطة باقتصاد هذا الوطن. وقد يكون لذلك أسباب عديدة منها، كثرة عدد القضايا في وقت لا يوجد فيه العدد الكافي من القضاة، ونمو الحركة الاقتصادية بشكل سريع، وكثرة مشاكل الناس نتيجة لواقع الحياة الذي طغت عليه المادة بشكل كبير، وزيادة عدد السكان وغير ذلك من أسباب أخرى. وعلى الرغم من أن الشروع في إيجاد محاكم متخصصة وزيادة عدد القضاة هو أمر مهم، إلا أن هذا لن يحل المشكلة ما لم يؤخذ في الاعتبار ضرورة سن الأنظمة التي تحد من زيادة وتراكم الدعاوى غير المبررة، فالدعاوى التي تُقام متعددة الأنواع والأشكال، فمنها ما هو صحيح ـ أي إن رافعيها أصحاب حق ـ ولكن لم يستطيعوا الوصول إلى حل مع المدينين، فأصبح القضاء هو الملاذ الوحيد، والبعض الآخر يذهب للقضاء لاعتقادهم بأنهم أصحاب حق “وربما لا يكونون على ذلك” وإنما لجؤوا للقضاء بحسن نية بغية إنهاء خلافاتهم. إلا أنه في الجانب الآخر هناك عدة فئات أخرى البعض منها يلجأ للمحاكم لإقامة دعاوى كيدية والبعض الآخرأُجبر على ذلك لأن هناك من ماطل وامتنع عن إعطائهم حقوقهم، لاسيما أن السنوات التي تُقضى في نظر الدعاوى تساعد مثل هؤلاء المماطلين في كسب المزيد من الوقت وتعطيل حقوق الناس مدة أطول، طالما أن أكثر ما يمكن أن يصل إليه الحال هو أن يُلزم المحكوم عليه برد ما بذمته فقط لصاحب الحق، أي إعادة المبلغ المستحق الأصلي من غير أن يتبع ذلك أي عقوبات أو غرامات مالية نتيجة لهذه المماطلة، ولذلك اكتظت المحاكم بقضايا كثيرة استغلالاً لهذا الوضع القائم والنظام المعمول به، وتعطلت حقوق الناس وأصبح اللوم ملقىً على المحاكم والقضاة في تأخير البت في القضايا، رغم أن الإشكالية الحقيقية تكمن في الأنظمة القائمة التي لم تعد تواكب التطور السريع في الحياة والحركة الاقتصادية.

لذلك ما الحل الذي يساعد في الحد من هذا الوضع الذي أدى إلى ضياع حقوق الناس وتعطيل مصالحهم، بل والإضرار بهم بشكل كبير، ذلك الحل الذي يرد للقضاء هيبته ويعيد للناس حقوقها دون أي تعطيل أو تأخير، ويكون معروفاً للجميع أن القضاء ليس مجالاً للعبث والتلاعب وأن إشغال القضاة والناس بدعاوى كيدية أو المماطلة في دفع حقوقهم ليس أمراً مرفوضاً فحسب، وإنما له تبعات وعواقب وخيمة والثمن فيه باهظ ومكلف. لذلك فقد آن الأوان لإعادة النظر في مبدأ مجانية التقاضي الذي ساهم بشكل أو بآخر في زيادة أعداد القضايا المقامة لدى المحاكم استغلالاً لهذا الوضع، وأدى ذلك إلى إطالة أمد التقاضي وتأخير الفصل في الدعاوى، حيث إنه لو كان هناك رسوم تُفرض على كل دعوى ـ ويسدد المدعي جزءاً منها عند التقدم بدعواه أمام القضاء، ثم يصدر حكم القاضي بإلزام الطرف الخاسر للدعوى بسداد كامل الرسوم بما فيها ما قد سبق وسدده المدعي، وتكون هذه الرسوم مقررة بمنطوق الحكم النهائي على من يخسر الدعوى ومشمولة في صك الحكم ذاته ـ لتردد الكثيرون في إقامة العديد من القضايا الكيدية التي تهدف إلى المماطلة وإضاعة حقوق الناس وإشغال المحاكم والقضاة وتبديد طاقاتهم وانصرافهم عن دعاوى أخرى، ولذلك لا بد في هذا الصدد من إيجاد نظام يتعلق بالرسوم القضائية وآلية العمل الخاصة به، وأن تُطبق هذه الرسوم على الدعاوى المدنية والتجارية والإدارية مع قيام ما يُسمى بـ”نظام المساعدة القضائية” والذي يُقترح صدوره أيضاً، كما هو معمول به في العديد من دول العالم، والهدف من هذا مساعدة ذوي الدخل المحدود الذين ليس في مقدورهم تحمل تلك الرسوم، على أن يُنشأ صندوق خاص لهذه الرسوم يُصرف على تطوير مرفق القضاء وتدريب كوادره والمساعدة في تغطية مصاريف المحامين الذين توكلهم المحكمة في حال عدم قدرة أحد الأطراف على الدفاع عن نفسه وتغطية مصاريف الخبراء وغيره.

والأمر الآخر أنه حان الوقت لإيجاد تقنين واضح ومحدد لموضوع مصروفات الدعوى، فالدعاوى اليوم تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مصاريف كبيرة من أتعاب محاماة وغيرها، ولذلك لا يجوز أن يٌكافأ المماطل بأن يرد ما عليه من حقوق بذمته فقط بعدما استنزف خصمه وأشغل القضاة بمماطلته، وإنما يجب تحميله أيضاً مصاريف الدعوى التي تسبب في إقامتها وأن يدفع أتعاب المحاماة التي اضطر الدائن صاحب الحق لتسديدها لمحامٍ أو أكثر لمقاضاة المدين، على أن تُضمن هذه المصاريف في صك الحكم الصادر في نفس الدعوى، وبهذا سوف يكون معروفاً أن اللجوء للقضاء سوف تكون تكلفته أكبر بكثير من إعطاء الناس حقوقهم في حينه وبعيداً عن أروقة المحاكم. والأمر الأخير هو أنه لا بد من وضع آلية محددة وواضحة ومتفقة مع الشرع الحنيف للتعويض عن الضرر الحاصل بسبب تعطيل حقوق الناس وإطالة أمد التقاضي وما يترتب عليه من تعدد الجلسات وتقديم المذكرات والمرافعات وما يُصرف من وقت وجهد ومال، إلى جانب ضرورة وضع آلية لتعويض الشخص المتضرر أيضاً عن موضوع القوة الشرائية للمبلغ المطالب به عند نشوء الحق إلى حين صدور الحكم في القضية المنظورة أمام القضاء، فالشخص الذي يطالب شخصاً آخر بمبلغ ما هذا اليوم لن يكون لذلك المبلغ نفس القوة الشرائية بعد عدة سنوات، خاصة إذا ثبت المطل والقدرة على السداد وانتفاء ضمان السداد، إذ لا يمكن إغفال عامل التضخم الذي تعيشه كل دول العالم الذي نحن جزء منه. إن ترك مثل هذه الأمور البالغة الأهمية لاجتهاد القضاة فيه مشقة عليهم، ويؤدي ذلك إلى تنوع الأحكام وتناقضها، ولذلك لا بد من إيجاد حلول لكل هذه الأمور، بدلاً من تركها على ما هو عليه الحال الآن لتساعد القضاة على معرفة الإطار الذي يمكنهم العمل من خلاله والتحرك وفق نظام ومنهجية واضحة ومحددة المعالم. إن الشريعة الإسلامية واسعة ورحبة وفيها مساحة كبيرة للتطوير والتطور والاجتهاد، ولذلك نرى أن هذه الاقتراحات تستحق التأمل والتفكير، حيث ستساعد بشكل كبير (لو تم تطبيقها كلها في مرحلة أو على الأقل على عدة مراحل) على الحد من التلاعب والتعدي على حقوق الناس وتخفيف الضغط الكبير على المحاكم والقضاة.

المصدر : جريدة الوطن -