محمود محيي الدين - جريدة الاقتصادية

عدد القراءات: 1146

من بين فرضيات نظرية التجارة الدولية التي ظلت قائمة لفترة طويلة، أن زيادة التجارة في الأمد البعيد ترتبط ارتباطاً متلازماً بنمو الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة أسرع. ولكن التحدي ـــ الذي تسعى مؤسستي، البنك الدولي، إلى التغلب عليه ـــ يتلخص في ضمان وصول فوائد النمو الذي تحركه التجارة إلى الفقراء. ولهذا السبب، بادر رؤساء سبع مؤسسات متعددة الأطراف، بما في ذلك البنك الدولي، إلى تقديم دعمهم القوي لاتفاقية تسهيل التجارة التي تم التوصل إليها في وقت سابق من هذا الشهر في مؤتمر منظمة التجارة العالمية الوزاري الذي استضافته بالي.

 من المؤكد أن معدلات الفقر في مختلف أنحاء العالم بلغت أدنى مستوياتها تاريخيا، ففي عام 2010 هبط معدل الفقر المدقع (نسبة السكان الذين يعيشون بأقل من 1.25 دولار في اليوم، قياساً على تعادل القوة الشرائية) بأكثر من النصف منذ عام 1990. ولكن على الرغم من هذا فإن أكثر من مليار إنسان في مختلف أنحاء العالم ما زالوا يعيشون في فقر مدقع. وعلاوة على ذلك فإن التقدم كان متفاوتا، حيث انحدرت معدلات الفقر بنسب أكبر كثيراً في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية مقارنة بالبلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا.

 وفي محاولة للتعامل مع هذا السياق العالمي المتغير، حدد البنك الدولي هدفاً جديداً لتوجيه جهوده الرامية إلى الحد من الفقر: تشجيع وتعزيز الازدهار المشترك من خلال مراقبة نمو دخل أكثر 40 في المائة فقراً بين سكان كل دولة. والواقع أننا نعيد النظر الآن في كيفية تعريف نجاح التنمية والكيفية التي نقدم بها الدعم المرتبط بالتجارة إلى البلدان النامية.

 إن العلاقة بين التجارة والفقر متغيرة ومعقدة. فالتجارة المتزايدة تعود بالفوائد على المستهلكين من خلال خفض أسعار السلع والخدمات. وهذا من شأنه أن يعطي الفقراء القدرة على الوصول إلى مجموعة أكثر تنوعاً من السلع، في حين يوفر للشركات مجموعة أكثر تنوعاً من المدخلات.

 ولكن التجارة المتزايدة من الممكن أيضاً أن تقضي على الوظائف التي تتطلب مهارات متدنية في المصانع، وأن تؤدي إلى انخفاض أسعار المنتجات الزراعية ـــ وهي النتائج التي تلحق أضراراً غير متناسبة بالفقراء. ففي الهند، على سبيل المثال، كان انحدار الفقر أبطأ في المناطق، حيث يواجه المزارعون منافسة أجنبية متزايدة. ونظراً للقيود التي تمنع تنقل العمالة بين القطاعات، والنابعة من الحواجز التي تحول دون اكتساب المهارات وتنظيمات سوق العمل الجامدة، تصبح الخيارات المتاحة لأكثر العمال فقراً ضئيلة عندما تحدث مثل هذه التغيرات.

 ونتيجة لهذا فإن التجارة المتزايدة قد تتطلب تعديلات صعبة في الأمد القريب. فقد يحتاج الأفراد إلى تغيير عاداتهم الاستهلاكية؛ وقد يكون من الضروري إعادة تخصيص العمل عبر مختلف القطاعات؛ وقد يضطر بعض العمال إلى التكيف مع أجور أقل، مؤقتاً على الأقل. وستنمو بعض الشركات في حين تنكمش شركات أخرى.

 وقد أثبتت التجربة أن الحكومات، بالاستعانة بسياسات تقدمية إبداعية، قادرة على تعزيز فوائد التجارة وتخفيف تأثيراتها السلبية على الفقراء. وبوسع صناع السياسات أن يعملوا على تعزيز برامج التدريب للعمال النازحين وإزالة العقبات التنظيمية التي تعيق تدفقهم على القطاعات المزدهرة الموجهة نحو التصدير. ومن أجل حماية المزارعين، يمكنهم إزالة القيود المفروضة على التصدير وضمان القدرة على الوصول إلى معلومات السوق الدقيقة أولاً بأول.

 وبتطبيق مثل هذه السياسات، يصبح بوسع البنك الدولي من خلال الجهود التي يبذلها لتعزيز الروابط التجارية بالبلدان النامية تسهيل الحد من الفقر إلى حد كبير. على سبيل المثال، نساعد حكومات البلدان النامية على ربط الشركات والمزارعين والأسر بالأسواق وسلاسل التوريد، وبالتالي تعزيز زيادة الاستثمار والنشاط الاقتصادي.

وعلاوة على ذلك، فإننا نقوم بدعم مشاريع تنمية البنية الأساسية، وبالتالي تمكين البلدان من بناء الطرق والجسور والموانئ التي تربط التجار بالأسواق. على سبيل المثال، يعمل مشروع الطريق السريع في كازاخستان بتكلفة 1.8 مليار دولار على تسهيل النقل المرتبط بالتجارة عبر البلاد، وهو ما من شأنه أن يحفز الاقتصاد في المناطق الأكثر فقراً هناك، وخلق أكثر من 30 ألف فرصة عمل. وفي نيبال، يتولى البنك تمويل إعادة بناء طريق وعر وخطر ومزدحم بالحركة، الذي يحمل أغلب صادرات البلاد إلى الهند، كما يدعم الجهود التي تبذلها الحكومة لربط بعض المناطق النائية في البلاد بشبكة الطرق الرئيسة.

 ومن أجل تعظيم أثر مثل هذه المبادرات، يتعين على زعماء العالم أن يتعاونوا من أجل بناء نظام تجاري مفتوح والحفاظ عليه. وقد وفر مؤتمر منظمة التجارة العالمية في بالي فرصة بالغة الأهمية لوضع اتفاق جديد يعمل على تيسير التجارة على التعجيل بحركة البضائع والتصريح بها وتخليصها في المراكز الحدودية؛ وتوضيح وتحسين القواعد المرتبطة بالتجارة؛ وتعزيز المساعدة الفنية؛ وتشجيع التعاون بين هيئات مراقبة الحدود.

 بيد أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في بالي من غير الممكن أن ينجح ما لم تتفق البلدان الغنية والجهات المانحة على دعم جهود البلدان النامية الرامية إلى استنان السياسات والإصلاحات ذات الصلة. لذا، فمن الأهمية بمكان أن يدرك صناع السياسات في البلدان المتقدمة أن نظام التجارة العالمي الأكثر كفاءة وتكاملاً وشمولاً من شأنه أن يفيد كل البلدان.

ومن خلال الالتزام الحقيقي من قِبَل المجتمع الدولي وتبني السياسات المحلية المناسبة، يصبح من الممكن أن تعمل التجارة كقوة عاتية لصالح الحد من الفقر.

المصدر : جريدة الاقتصادية - 27 صفر 1435هـ الموافق 29 ديسمبر 2013م