خط الكفاية «الفقر» في السعودية
عبدالحميد العمري - جريدة الاقتصادية
كانت الأدبيات في الأروقة الرسميّة وفي فضاء الإعلام المحلي تتناول “الفقر” تحت مسمّى “ذوي الدخل المحدود”، سرعان ما تبدّل الأمر بعد زيارة خادم الحرمين الشريفين في نوفمبر 2002 إلى أحد الأحياء الفقيرة في مدينة الرياض، حينها كان – أطال الله في عمره – ولياً للعهد، ليتم الاعتراف في شجاعة بوجود “الفقر” كظاهرة طبيعية يعانيها أي مجتمع، وكخطوة لازمة لمواجهته بما يستحق من جهود وموارد متاحة. لاحقاً؛ تمخّض عن تلك الزيارة الخيّرة العديد من الإجراءات المهمة بهدف زيادة مكافحة الفقر في البلاد، والحدِّ من مخاطره المعلومة على أي مجتمع قد يتفشى فيه، كان من أبرزها ولادة الصندوق الوطني لمكافحة الفقر، والزيادة المتتابعة لمخصصات الضمان الاجتماعي.
هل أفلحتْ جهود ذلك الصندوق في الحدِّ من أشكال الفقر طوال العقد الفائت؟ وهل أثمرتْ مساعي وسياسات وزارة الشؤون الاجتماعية عمّا يُشير إلى الهدف ذاته؟ وهل تمكنتْ من تطوير أحزمة الأمان الاجتماعي والمادي للأسر الفقيرة؟ هل تمكّن الضمان الاجتماعي البالغ 1998 ريالا شهرياً، لأسرة مكونة من خمسة أفراد بالوفاء بمتطلباتها المعيشية في أدنى مستوياتها؟ كم عدد الدراسات المسحيّة التي أجرتها وزارتا الشؤون الاجتماعية والاقتصاد والتخطيط بهدف معرفة مستويات المعيشة للأسرة السعودية؟ للعلم؛ كان آخر بحث “دراسة مسحية” تم إجراؤه من المصلحة العامّة للإحصاءات والمعلومات في 2007/2006، بعنوان “ﻣﺴﺢ ﺇﻧﻔﺎﻕ ﻭﺩﺧﻞ ﺍﻷﺳﺮﺓ” تجده منشوراً على الموقع الإلكتروني للمصلحة، كان من أهم المؤشرات في تلك المرحلة بلوغ متوسط إنفاق الأسرة السعودية الشهري على مجموعات السلع والخدمات (الاستهلاكية، غير الاستهلاكية) 13251 ريالا “للفرد السعودي 2138 ريالا شهرياً”، مقابل متوسط دخل شهري للأسرة السعودية بلغ 14084 ريالا “للفرد السعودي 2273 ريالا شهرياً”، مع الإشارة إلى أنّ “ﻣﺴﺢ ﺇﻧﻔﺎﻕ ﻭﺩﺧﻞ ﺍﻷﺳﺮﺓ” لم يوضح في تفاصيله خطاً للفقر أو الكفاية، مكتفياً باعتبار وضع الأسرة السعودية “مثالياً”، قياساً على نسبة الإنفاق الشهري للأسرة السعودية على “الأغذية والمشروبات” البالغة 16.6 في المائة، وكونه أدنى من 20 في المائة وفقاً لقانون انجلز لتحديد مستوى فقر الأسرة.
استغرق الأمر في هذا الخصوص نحو ثمانية أعوام، حتى صدرتْ الأسبوع الماضي دراسة “خط الكفاية في المملكة العربية السعودية” عن مؤسسة الملك خالد الخيرية، والتي انتهت نتائجها إلى خط الكفاية “الفقر” للأسرة السعودية يبلغ 8926.1 ريال شهرياً، المكوّن من مجموع المتوسطات الحسابية الشهرية لعشرة احتياجات رئيسة للأسرة (السكن، الأكل، الملبس، الرعاية الصحية، الحاجات المدرسيّة، حاجات الرضّع، الكماليات، المواصلات، الخدمات الأساسية، الترفيه). واعتبرتْ أنّ من يعيش تحت هذا الخط فقير، مع الأخذ في الاعتبار أنّ من لا حاجة له وأسرته لأي من تلك الاحتياجات الأساسية العشر، يمكن خصمه من المجموع الكلي المكوّن لقيمة خط الكفاية، ما يعني أنّه سيكون أقل من القيمة الموضحة أعلاه.
مع التحفّظ على الجزء المتعلق بملكية السكن ضمن منهجية مسح الدراسة، التي أظهرتْ نسبة تملك المواطنين لمساكنهم بنحو 74 في المائة “منطقة الرياض وحدها نحو 90 في المائة”، إلا أنّ الدراسة تعتبر من أهم الدراسات المسحية التي أُجريت في هذا الخصوص، قياساً على الجهد الكبير الذي بُذل لأجل إصدارها، تستحق عليه المؤسسة وفريق البحث برئاسة أ. د. سامي الدامغ كل الشكر والتقدير. وأن يتم تبنّي التوصيات الثماني التي انتهتْ إليها الدراسة من الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، وهي: (1) اعتماد خط الكفاية المركب في سياسات الدولة الخاصة بالرعاية الاجتماعية، والضمان الاجتماعي تحديداً. (2) ربط خط الكفاية بنسبة التضخم سنوياً. (3) إعادة النظر في شروط الاستحقاق الخاصة بالضمان الاجتماعي، بما يعكس الأفراد والأسر حسب حاجتهم لا من حيث فئاتهم فقط. (4) ربط مخصصات الضمان الاجتماعي أو برامج المساعدات الاجتماعية الحكومي بشروط استحقاق تنموية، من أهمّها: إلزامية تعليم الأبناء، إلزامية التدريب في حالة القدرة، إلزامية الوظيفة في حالة توفيرها للمستفيدين. (5) إعداد استراتيجية خاصة بالتنمية الاجتماعية لا الفقر، تأخذ بعين الاعتبار: بناء الإنسان، التصدّي للأسباب الحقيقية المؤدية للفقر، الفقر المؤنث، الطلاق وانعدام دفع نفقته لمن تستحقه من النساء المطلقات، كثرة انتشار الهجرة البعيدة عن التنمية، تزايد أعداد العمالة غير السعودية ومنافستهم غير العادلة للعمالة الوطنية. (6) تطوير جهاز الضمان الاجتماعي في وزارة الشؤون الاجتماعية. (7) إبراز جهود الدولة لخدمة المواطن، والدعم الحكومي المقدّم له بمختلف أشكاله. (8) تطوير آليات جباية الزكاة.
أؤكد أهمية أنْ تعجّل الجهات المعنيّة بتبنّي تلك التوصيات، لتتحقق الفائدة المأمولة من نتائج الدراسة لمصلحة الاقتصاد والمجتمع، وأن تتحرك تلك الجهات المعنيّة بخطوات أكثر جديّة تجاه القضاء على الفقر بأشكاله كافة، وحماية شرائح المجتمع السعودي التي تعانيه، وانتشالها منه على وجه السرعة. في اعتقادي أنّ النتائج التي توصّلت إليها هذه الدراسة، تكشف بجلاء الكثير من أوجه القصور التي يتحمّل مسؤوليتها الأجهزة الحكومية ذات العلاقة بمعيشة المواطن وأسرته، كما أنّها تبيّن ضرورة قصوى لإعادة تصميم وتأسيس العديد من السياسات الاقتصادية الراهنة المرتبطة بالعديد من متغيرات حياة المواطن وأسرته، لعل من أهمّها تدني مستويات الأجور التي يقع نسبة كبيرة منها تحت خط الكفاية المحدد في الدراسة، وتقع مسؤولية هذا التحدّي على عاتق كل من وزارات المالية، الاقتصاد والتخطيط، الخدمة المدنية، العمل، ووزارة الشؤون الاجتماعية فيما يتعلق بمستحقي الضمان الاجتماعي، وكل من صندوق معاشات التقاعد والمؤسسة العامّة للتأمينات الاجتماعية فيما يخص المتقاعدين والمتقاعدات، إضافة إلى المعونات المقدمة للعاطلين والعاطلات عن العمل، ومكافآت الطلاب والطالبات.
تقتضي التحديات الراهنة التي يواجهها الاقتصاد الوطني والمجتمع، ووفقاً للشفافية المرتفعة السقف التي تُحسب لبلادنا كمنجز غير مسبوق، أنْ يتم توظيف نتائج الجهود الرائدة لمؤسساتنا المدنية كمؤسسة الملك خالد الخيرية كمثالٍ حي، والطروحات المفيدة على يد المتخصصين من أبناء وبنات هذه البلاد الخيّرة، وتترجم لما فيه تحقيق المصلحة العامّة للبلاد والعباد، التي ستدفع بموقعنا للأعلى على سلّم الرقي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي بين مختلف البلدان والمجتمعات المعاصرة. إنّه استحقاقٌ مشروع، وحلمٌ يمكن تحقيقه يراود كل فرد من مجتمعنا، نأمل جميعاً أن نرى قريباً إشراقاته الخيّرة قد عمّت سماء وأرض بلادنا العزيزة، والله ولي التوفيق.
المصدر : جريدة الاقتصادية - 12 جمادى الثاني 1435 هـ. الموافق 12 إبريل 2014