المسؤولية الاجتماعية … أكثر من تبرعات
د. عدنان بن عبد الله الشيحة - جريدة الإقتصادية
تحتضن البيئة المحلية المستثمرين والعموم (المستهلكين) والعلاقة فيما بينهما اعتمادية لدرجة كبيرة لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر. فصاحب المنشأة يحتاج إلى أفراد المجتمع كعاملين وكمستهلكين (فبدونهم لا إنتاج ولا بيع). وفي المقابل يحتاج المجتمع إلى التنمية الاقتصادية التي تقوم في الأساس على أفكار وتمويل المستثمرين، وبالتالي هم من يصنع الوظائف ويدير العملية الإنتاجية. ومن هنا يتضح أن تلك العلاقة قائمة على منافع متبادلة قد لا تكون بالتساوي أو بعدالة تامة، ولكن تظل مهمة لأنه لا يمكن لأحد الطرفين تحقيق منفعة دون تعاون الطرف الآخر. ولذا كان على الطرفين إذا ما أرادا تعظيم المنفعة السعي إلى خلق وضع مربح لكليهما. وإذا كانت التنمية تعني استكشاف وتوظيف إمكانات المجتمع المحلي من خلال توليد الوظائف، فإن تكبير الكعكة الاقتصادية يصب في صالح جميع أطراف العملية الإنتاجية المؤثرين والمتأثرين وهو أمر لا يتحقق إلا بتكاتف وتعاون الجميع من خلال رؤية المنفعة المشتركة والإيمان بها والتفاني في تحقيقها. فتوافر الأفراد المدربين المبدعين على سبيل المثال هو من صالح المنشآت الصناعية والتجارية، ولذا كان عليها السعي والمساهمة في تطوير الموارد البشرية المحلية وتوفير فرص العمل الحر عبر برامج المسؤولية الاجتماعية لضمان تطوير العملية الإنتاجية بمفهومها الواسع على مستوى المجتمع وزيادة الكفاءة والفاعلية وخفض التكلفة، كما أن رفع مستوى مهارات العاملين يؤدي إلى زيادة دخولهم ورفع مستوى معيشتهم وما يتبعه من تداعيات إيجابية في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. هذا يستلزم نظرة مشتركة بين رجال الأعمال وعموم المجتمع المحلي أساسها الإيمان بالمسؤولية نحو المجتمع عبر مبادرات فردية ومؤسسية طوعية وثقة متبادلة بأن التعاون والتكامل هو السبيل إلى تحقيق تنمية محلية مستدامة يفيض خيرها على الجميع في الحاضر والمستقبل. فمفهوم الاستدامة لا ينفك عن فكرة المسؤولية الاجتماعية. فالحفاظ على الموارد البيئية وتعزيز الثقافة المحلية ورفع مستوى المعيشة وجودة الحياة للأفراد وكفاءة الإنتاج هو ضمان لاستمرارية العملية الإنتاجية على المدى الطويل. هذه الاستمرارية تكون مرهونة بالحفاظ على حقوق الأجيال القادمة في العيش بذات المستوى الاقتصادي والتماسك الاجتماعي للجيل الحالي أو أفضل، ما يعني عدم استنزاف الموارد في الوقت الحاضر بطريقة جائرة وتمييع الثقافة المحلية وتناسي الثوابت الوطنية. كما أن الاستدامة مرتبطة بالبحث عن حلول إبداعية للمشكلات الاجتماعية من خلال ابتكار وإنتاج ما يميز الاقتصاد المحلي ويجعله أكثر قدرة على المنافسة، وفي الوقت ذاته يلبي احتياجات المجتمع بطريقة آمنة وكفؤة لا تؤذي النظام البيئي وعناصره. هكذا تتحقق الركائز الثلاث للتنمية المستدامة: البيئة والمجتمع والاقتصاد.
إن منطلق المسؤولية الاجتماعية هو التفكير الجمعي والإيمان بأننا جميعا نعيش على السفينة نفسها، وأنه من صالح الجميع خاصة رجال الأعمال كأصحاب رؤوس أموال في أن تبحر سفينة المجتمع بأمان وكفاءة وفاعلية. وهذا يستلزم تعاملا مبنيا على الأخذ والعطاء والتفاعل الإيجابي بين جميع مكونات المجتمع المحلي وليس علاقة مبتورة فوقية باتجاه واحد. فسعة الأفق والنظرة العميقة والرؤية طويلة المدى والإيمان بالمصير المشترك عناصر أساسية لاستيعاب مفهوم المسؤولية الاجتماعية. ولذا هي تستلزم نضجا ثقافيا مجتمعيا يتخلى فيه الناس (منتجين ومستهلكين) عن الأنانية والمصالح الضيقة ليندفعوا نحو العمل المشترك الطوعي لتبدأ حركة التطوير والبناء والتنمية للوصول إلى مستويات أعلى من الإنتاجية ووضع اقتصادي واجتماعي أفضل. وتشير الدراسات إلى أن إنتاجية المنشأة ومستوى ربحيتها مرتبط ببيئة المجتمع المحلي والقيم المشتركة التي تطورها برامج المسؤولية الاجتماعية، إذ إن الثقافة المحلية والخبرة التراكمية والانتماء للمكان عناصر أساسية في العملية الإنتاجية. فثقافة العمل والإنتاج في المجتمع من صالح رجال الأعمال إذ إنها تخلق قيما تدفع نحو زيادة الإنتاج وتقديم وسائل وأساليب جديدة في الصناعة تسهم في خفض التكاليف وزيادة المبيعات، وهذا يؤدي إلى زيادة الأرباح وتكبير الكعكة الاقتصادية ودخول الاقتصاد المحلي دورة اقتصادية إيجابية تتوسع فيها القاعدة الاقتصادية ويزيد معدل النمو. ولكن يلزم ملاحظة أنه في خضم اندفاع الجميع إلى زيادة الإنتاج يجب توخي الحذر في عدم استنزاف الموارد الطبيعية وتشويه النظام الاجتماعي فنقتل البطة التي تبيض ذهبا!
وفي هذا السياق، يبرز مفهوم البناء المؤسسي كأحد المفاهيم الأساسية في مجال المسؤولية المجتمعية، وهو تحول الشركة التجارية من منظمة إلى مؤسسة. فالمؤسسة مستوى تنظيمي أعلى من المنظمة، إذ إنها لا تعتمد فقط على التعامل الاقتصادي بالتبادل النفعي بينها والمجتمع وحسب، وإنما السعي في أن تكون ذات قيمة اجتماعية لذاتها، أي أن يقدرها المجتمع لدورها الريادي الإيجابي في المجتمع وتبنيها قيم المجتمع المحلي وتجسيد ذلك في أعمالها وأنشطتها والإسهام في تنمية ومعالجة القضايا المحلية. فعندما تبادر منشأة تجارية إلى تقديم خدمات ومشاريع اجتماعية فهي تعزز علاقتها مع المجتمع لتكون أكثر من مجرد شركة توفر منتجات أو خدمات تجارية. هذه العلاقة الحميمية تضمن الاستدامة والاستقرار للشركة مع عملائها من جهة وتعزز الولاء الوظيفي لموظفيها من جهة أخرى. وربما تسأل أحدهم لماذا تُطالب الشركات الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية في ظل وجود الحكومة المسؤولة عن تحقيق المصلحة العامة؟ والجواب ببساطة، الحكومة لا تستطيع أن تفعل كل شيء، ولا يمكن أن تقنن كل الأوضاع، فهذا ربما عطل المشروع التجاري وقتل الدافعية للإنتاج، ولذا هناك ضرورة لمبادرات ذاتية للمؤسسات التجارية والصناعية في تلبية الاحتياجات المجتمعية ورفع مستوى جودة الحياة وتفعيل الأنشطة المجتمعية وتحقيق الاستدامة في الإنتاج وكل ذلك سيعود بالنفع العميم على المجتمع المحلي مستثمرين ومستهلكين. كما أن المؤسسات التجارية تستفيد من القدرات المحلية والموارد الاقتصادية والخدمات الحكومية (دون دفع ضرائب في السعودية)؛ لذا كان عليها وطنيا وأخلاقيا ومهنيا وربحيا القيام بواجبها تجاه المجتمع المحلي لتكتمل العلاقة وتتطور مع مكوناته على المدى الطويل، فنجاحها مرتبط بتطور المجتمع الذي تعمل فيه، فالمسؤولية الاجتماعية أكثر من تبرعات … هي تطوير لبيئة العمل المحلي.
المصدر : جريدة الإقتصادية - 17 ذو الحجة 1435 هـ. الموافق 11 أكتوبر 2014