صالح زياد - جريدة الوطن

عدد القراءات: 1046

المشكلة في مشروع “حصانة” تبدو في انخراطه في دائرة الفرز والتصنيف للمجتمع، وهذا أخطر ما يعانيه المجتمع السعودي فكرياً. وأظن أن نجاح المشروع كان أقرب إلى الواقع لو أنه أفسح صدره للتعدد والاختلاف
لا يمكن أن يوصف مشروع التوعية الفكرية “حصانة” في وزارة التعليم، بالتربوي ولا الوطني، ولا يجدر به اسم “التوعية الفكرية” ولا شعار “حصانة” إذا ما تبين لنا من خلال دليله التنظيمي، أنه مشروع تفتيش عقائدي، وفرز وتصنيف فكري وفئوي.
والأعجب من ذلك أن تناط به مهمة “تحقيق الأمن الفكري” التي يراد بها حماية الشباب وتحصينهم من تطرف جماعات “الفكر الضال” و”الانحرافات الفكرية”، وهو يمارس المنهج نفسه الذي أنتج التطرف منهج التصنيف والفرز للمختلف، والفكر الأحادي الدوغمائي.
يقوم المشروع –في نص دليله التنظيمي- بتحديد “ثلاثة مهددات للأمن الفكري:
1 – التيارات والمذاهب الفكرية المعاصرة: التغريبية والإلحادية والليبرالية والعلمانية… إلخ.
2 – التيارات المتطرفة الغالية التكفيرية.
3 – الحزبية والطائفية والتفرق والتنازع”.
وذلك من دون وصف تعريفي يتيح التعرف عليها مشخَّصةً في الواقع بالصفة التي تُتَّهم بها وهي تهديدها للأمن الذي يُخَصَّص في الدليل بـ”الفكري”، ويفتقد –هو الآخر- التعريف الذي يحدِّده في التهديد للوطن، لا في التهديد لجماعة محدودة في الوطن.
ويتضح من التيارات والمذاهب المسمَّاة في الدليل، اختيارها على قاعدة التعارض والتقابل بين طرفين، بحيث لا يتعرف أحدهما إلا بوصفه ضداً للآخر. وهذه ممارسة تحجب التطرف الذي يراد التوعية بخطره، والكشف عن تهديده للأمن؛ لأنها تضعه في سياق تصارع وتشارط إقصائي بين الطرفين. وبذلك يصبح لكل طرف وصفان وتعريفان: أحدهما من وجهته والآخر من الوجهة المعارضة له، أحدهما يصدر عن مديح أنصاره له، والآخر يأتي من قدح أعدائه فيه. وهذا يؤدي إلى أن نرى جانباً “ممدوحاً” في التطرف وقيمة مطلوبة لوجوده، وهذا هو معنى الحجاب عليه وتعميته.
والمشكلة في أثناء ذلك أنه لا يمكن تحرير الرؤية التي ينطوي عليها دليل مشروع التوعية الفكرية “حصانة” من دائرة الفرز والتصنيف التي قام بها، ولا تخليصه من العلوق في شرك تلك التعارضات؛ لأنه لن يجد له مكاناً خارج دائرتها التي تنغلق عليه وتتضمنه داخلها. وكان بوسعه أن يخرج منها عن طريق التفكير خارج صندوقها المغلق على التعارض والتقابل، إلى مساحة الاختلاف والتعدد.
لقد حدد المشروع مكانه داخل التيارات المتعارضة ثنائياً، بالوصف للقائمين عليه بأنهم “من أهل الوسطية”. والوسطية هنا مفهوم لا يتحدد إلا بوجود طرفين، هما طرفا التعارض: العلماني/ التكفيري، والتغريبي/ الأصالي، والليبرالي/ المتشدد، والطائفي أو الحزبي/ الوطني… إلخ. وهكذا لن يكون وسطياً إلا بوجودهما، لأن القضاء عليهما قضاء على وسطيته.
وإذا كان الوسط بتلك الصفة، فإن الطرفين المتعارضين لا يخرجان عنها، لأن صفة أحدهما وحقيقته وقيمته لا تنجلي إلا لأنه في قبالة المعارض له، وبالضد منه. وهذه هي سيرة التعارض الثنائي وقضيته الأزلية التي تجعل دائرة الرؤية محصورة بين حديهما من دون تصور للفكاك منهما إلى ما يكسر تراتبهما وتقاطبهما الصوري، ويخرج إلى الاختلاف الذي يدرجهما في المتعدد.
هكذا تصبح تلك التيارات والمذاهب والتوجهات المذكورة محدَّدة الصفة والتعريف والقيمة، ضمن دائرة التصنيف والفرز إلى تعارضات ثنائية، وليس من خارج هذه الدائرة.
ومن شأن ذلك أن يتيح وجود التطرف، بل يقتضيه، ويضفي عليه مشروعية بحسبانه ضداً لتطرف في الجهة المقابلة له. فليست “التيارات المتطرفة الغالية التكفيرية” إلا المقابل للتيارات “التغريبية الإلحادية الليبرالية العلمانية” ووجود هذه أنتج تلك. وهي دعوى مطروحة فعلياً من قبل المدافعين عن التيارات المتشددة، وليست مفترضة. تماماً كما أن بعض من يدافع عن الليبرالية والعلمانية لا يرى مشروعيتهما في المطلق، بل يراهما فقط علاجاً للتطرف الديني التكفيري.
ولو تساءلنا عن الحد الذي يقف عليه الفرز والتصنيف من تيار لآخر ومن التيار ذاته لذاته، لوجدناه متغيِّراً ومختلفاً باستمرار؛ فهو يضيق حيناً ويتسع حيناً آخر، ويتداخل بين هذا التيار وذاك في موضع أو آخر. وهذا يلقي بتبعته على مشروع “حصانة” من حيث هو مشروع يقصد المكافحة للمهددات عن طريق فرزها و”الكشف المبكر عن الطلاب والطالبات الذين لديهم احتمالية تبنِّي الفكر الضال”.
إن الليبرالي في أحد صفاته التي يمكن معرفته بها من بعض التيارات الدينية، أو في بعض المناطق، هو من يحلق لحيته، فإذا أضاف إلى حلاقتها الشنب، فلابد أنه توغل إلى درجة أعمق في الضلال. والأمر نفسه يمكن قياسه بالتصنيف في خانة الضلال والانحراف الليبرالي والعلماني في حق من أبدى قناعته بحكم فقهي مشروع خلافاً للسائد، مثل كشف المرأة عن وجهها، أو الاستماع إلى الموسيقى… وما إلى ذلك.
وقد نفهم من “التيارات المتطرفة الغالية التكفيرية” التنظيمات الإرهابية التي اقترفت عمليات عنف مسلح في المملكة مثل “القاعدة” و”داعش”. فماذا عن التكفير الذي تضمنته بعض الكتب والفتاوى المطبوعة؟! وماذا عن التضليل والتكفير تجاه من يوصفون بالليبراليين والعلمانيين والحداثيين، وتجاه الشيعة وغيرهم؟! وربما يتضح حد التكفير في حركته التي تتسع وتضيق، حين نتذكر خبراً تناقلته بعض الصحف قبل حوالي سنتين عن إعدام داعش لقاض في صفوفه يدعى “أبوجعفر الحطاب” بتهمة “الغلو في التكفير”!.
أما في جهة الليبرالية والعلمانية، فإن خط التصنيف لدى بعض المتمذهبين بهما، يضيق أحياناً حتى لا يرون أحدا من المتدينين قابلاً للاتصاف المذهبي بهما. ويتسع لدى آخرين إلى استيعاب المتدينين، بل يرون في حماية الدين والدفاع عنه مطلباً من مطالب الحقوق العامة.
وفي هذه الحدود المتغيرة والمتحولة والمتداخلة، لا يبدو النظر إلى التيارات والمذاهب بناء على تعارضات ثنائية حادة وقارة يسيراً لشخص واحد، فكيف حين ينظر إليها عديد من الأشخاص ومن زوايا متعددة؟! ثم أليس القضاء على التطرف بفرض رؤية واحدة ومحاربة التنوع والاختلاف أدعى إلى التحريض عليه وأدل على التسويغ له والحماية له.
ليس بمستطاع أحد أن يتعرف على ما تنطوي عليه قلوب الناس من عقائد وأفكار، ولكن بوسع الأنظمة والأحكام أن تحدد للمجتمع أفراداً وجماعات الحدود المقبولة في الأقوال والأفعال والسلوك وتمنعهم من غيرها. وإذا كان الأمر كذلك فليس لأي فكر خطورة أو تهديد بأي معنى ما لم يقترن قولاً أو فعلاً بالعنف في الدعوة إلى فرضه على الآخرين، وفي الإساءة إليهم.
إن المشكلة في مشروع “حصانة” تبدو في انخراطه في دائرة الفرز والتصنيف للمجتمع، وهذا أخطر ما يعانيه المجتمع السعودي فكرياً. وأظن أن نجاح المشروع كان أقرب إلى الواقع لو أنه أفسح صدره للتعدد والاختلاف الذي لا يستطيع الفكر المتطرف التعايش معه، وهو وحده ما يتيح تشخيص هذا الفكر الخَطِر ومعالجته.

المصدر : جريدة الوطن - 6 نوفمبر 2016م