د.عبد الرحمن الحبيب - جريدة الجزيرة

عدد القراءات: 1306

بلادنا هي أكبر مصدر للنفط في العالم.. لكن هذا الامتياز لن يستمر طويلا! فالنفط ثروة ناضبة، وقبل أن ينضب فالعالم يسعى حثيثاً لإيجاد مصادر بديلة وقد بدأ يجدها.. والاستهلاك المحلي لدينا يتزايد لدرجة أننا قد نستهلك كل ما ننتجه.. فما الحل؟

الحل الراهن هو اقتصاد المعرفة، ليس لدينا فقط بل لكل البلدان سواء كان اقتصادها ريعياً أو زراعياً أو صناعيا. إنما قبل أن يكون لدينا هذا الاقتصاد لا بد أن يكون لدينا مجتمع المعرفة، أي مجتمع ينتج المعرفة (خاصة التكنولوجية) أو يستوردها ويوطنها ويعيد إنتاجها، وينشرها بين أفراده، ويديرها ويحمي حقوقها الفكرية، وأخيراً يستثمرها اقتصادياً. فأين نحن من ذلك؟

قبل الإجابة على هذا السؤال المتعب من المهم أن نحدد ما نقصده باقتصاد المعرفة؟ إنه ببساطة الاقتصاد الذي تكون فيه الفكرة هي العامل الرئيسي.. أي تكنولوجيات جديدة مفيدة وقابلة للتطبيق العملي (للبيع).. إنها شكل أساسي من أشكال رأس المال. فالاقتصاد العالمي الآن ينمو وفقاً لتراكم تكنولوجيات جديدة.. والأفكار العلمية والابتكارات التقنية هي المحدد الرئيسي لنمو الاقتصاد أكثر من الأرض وأدوات الإنتاج والقوى البشرية ورأس المال في الاقتصاد التقليدي..

في الاقتصاد التقليدي الصناعي يأتي رأس المال والعمال في المقام الأول ثم المعرفة. وقبله كان الاقتصاد الزراعي حيث تأتي الأرض والعمال بالدرجة الأولى ثم رأس المال، وأخيراً المعرفة. فيما الاقتصاد الريعي (كالدول النفطية) تأتي الأرض (المنتجة للمادة الخام) في المقام الأول ثم العمالة، وأخيراً المعرفة.

كيف يغير اقتصاد المعرفة معادلة: الأرض، العمالة، رأس المال؟ خذ مثلاً الأرض: لدينا بالسعودية طاقة شمسية هائلة ومصادر مياه شحيحة، يمكن للابتكارات التقنية تحويل تلك الطاقة إلى منتج قابل للاستخدام بمجالات عديدة ومنها تحلية مياه البحر. فإذا استطعنا التحلية بتكاليف رخيصة فقد نتمكن من استخدام هذه المياه بالزراعة. هنا ينتفي دور الأرض في الاقتصاد التقليدي كعامل رئيسي محدد للإنتاج الزراعي.. إذن أهم مواصفات اقتصاد المعرفة هو المحتوى المعرفي التكنولوجي للمنتج قبل طبيعة الأرض أو عدد العمال.

لكن هذه المنتجات تحتاج إلى بنية تحتية تبدأ بالمجتمع، وأطفال المجتمع يحتاجون أولاً للتعليم الذي يؤسس لمجتمع المعرفة. التعليم في المجتمع الزراعي أو الريعي يمكن أن يكون تلقينياً تنال فيه الدراسات النظرية حيزا كبيراً، أما التعليم في المجتمع الصناعي فضلا عن مجتمع المعرفة فلا بد أن تنال فيه العلوم والرياضيات والتقنية الحيز الأكبر. لكن للأسف فإن نسبة مواد العلوم والرياضيات لدينا هي الأقل في العالم، وحتى المقررات الدراسية الجديدة المطورة للمرحلة الابتدائية تشكل حوالي 24% فقط من المقررات الدراسية، وهي تصل إلى نصف النسبة في بعض دول العالم!

بطبيعة الحال المسألة ليست كمية فقط بل أيضا نوعية وأسلوب تعليم وبيئة تعليمية تحفيز على التفكير العلمي والابتكار وليس التلقين.. فعلى المدرسة أن تحفز روح الابتكار والنقد والبحث مما يوفر بيئة تعلم متواصل بعد نهاية المراحل الدراسية. ففي مجتمع المعرفة لا تقف العملية التعليمية مع نهاية المرحلة الدراسية بل تستمر بشكل دائم ومتجدد فهذا هو أساس مجتمع المعرفة.. إنه مجتمع لا يقف عن التعلم بعد الحصول على الشهادة العلمية.

للأسف الشديد توضح إحدى الدراسات أن النسبة العظمى من طلاب الجامعة السعوديين لم تحضر أي فعاليات للثقافة العلمية، وأنها لا تتابع أية برامج أو أخبار علمية في الإعلام، وأن مفهوم الثقافة العلمية والمصطلحات الأخرى المرتبطة به غامضة لديها. وهناك ضعف ميزانيات إنتاج البرامج العلمية وافتقادها للتواصل مع الجمهور. أما عدد الكتب والمجلات والنشرات الثقافية في المملكة فهو قليل جداً لا يتناسب مع حجم المملكة السكاني (مشروع الإستراتيجية الوطنية لنشر الثقافة العلمية، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية).

ثمة فجوة معرفية لدينا.. فمن يردمها؟ يأتي هنا بعد التعليم دور التدريب الذي ينبغي أن يكون مستمراً، ليزيد من عدد الأفراد الذين يبتكرون في التقنية، وهذا يتطلب إقامة المؤسسات التقنية والبحثية في القطاعين العام والخاص. وحسب تجارب دول شرق آسيا التي نجحت في الانتقال إلى مجتمع المعرفة فإن دور القطاع الخاص ينبغي أن يكون ريادياً لكي يتلقف الابتكارات التكنولوجية من أفراد المجتمع لتسهم في التنمية الاقتصادية.

إلا أن القطاع الخاص لن يغامر بنفسه في تبني الابتكارات التكنولوجية من أفراد المجتمع ما لم تكن مجدية اقتصادياً. هذا يتطلب من القطاع العام أن يوفر البيئة المناسبة من خلال استراتيجيات اقتصادية جديدة وتشريعات جديدة تحرر التجارة وتتأقلم مع عولمة الاقتصاد وتعقد شراكات دولية.. وترفع القدرة التنافسية للمنتج السعودي، وتحفيز الابتكار وحماية حقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراع..

فوضع السعودية في مؤشر الاقتصاد المعرفي لعام 2012 حسب البنك الدولي ليس مشجعاً (ست نقاط من عشرة)، وكذلك ترتيبها بين دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تحل في الوسط بعد الإمارات والبحرين وعمان.. وفي الوسط في مؤشر التنمية البشرية. أما في مؤشر الابتكار فتأتي ما قبل الأخيرة وكذلك في تطور تقنية المعلومات وأيضا في مؤشر تطور التعليم للجميع..

يطرح الخبير الدولي محمد مراياتي (وهو مستشار أيضاً في السعودية) أن من أهم القضايا المستعصية في الاقتصاد السعودي هي: عدم الاستقرار الاقتصادي (معدلات النمو غير مستقرة)، انخفاض التنوع الاقتصادي، البطالة، هدر العقول العلمية والتكنولوجية، ندرة المنتج السعودي في السوق العالمي..ويقترح مراياتي للتوجه نحو مجتمع المعرفة في السعودية: تحسين إدارة المعرفة، استيراد المعرفة وتوطينها، إنتاج المعرفة ونشرها وتبادلها بين الجامعات والمؤسسات البحثية والأجهزة الحكومية وقطاع الإنتاج والخدمات والمجتمع ككل ثم استثمراها، تحسين البنية التحتية للمعلوماتية.

الخطوة الأساسية في انتقالنا لمجتمع المعرفة هو أن تصل الفكرة للوعي الجماعي كقضية كبرى مهما كان تخصصنا أو مستوانا التعليمي أو الثقافي، مثلما نعي قيمة الريال وقيمة الأرض وقيمة القوى البشرية.. ومثلما نعي القضايا الصحية الأساسية والقضايا البيئية الأساسية.. أقول أن نعي بأن المعرفة أصبحت الأساس للنمو الاقتصادي.. وأصبح التقنيون والعمال المهرة أهم من العدد الضخم للعمال محدودي المهارة.. الاقتصاد الريعي لأرضنا جميل ومريح لكنه مؤقت وسيكون فاجعاً إذا استمر اعتمادنا عليه!

المصدر : جريدة الجزيرة - 26 جماد الآخر 1434هـ الموافق 6 مايو 2013م