د. عبد اللطيف القرني - جريدة الإقتصادية

عدد القراءات: 1552

إن من المحتم والمهم على الجهات -التي تصدر التشريعات- أن يكون لديها الحد الأدنى من العلوم الأساسية التي تعنى بلغة النص عموما واللغة القانونية خصوصا، حتى يكون هناك ترابط معنوي بين النصوص فيما بينها، وترابط واقعي حيوي مع الواقع الفعلي لحياة الناس، فالاضطراب بين النصوص في القانون الواحد أو مع القوانين الأخرى يؤثر في حياة الناس واستثماراتهم.

فالجهة التشريعية التي تنشئ قانونا جديدا يجب عليها أن تراعي القوانين الأخرى، كما تراعي أيضا الظروف المحيطة بتطبيق القانون، حتى يكون للقانون مداه وأثره الحقوقي والأخلاقي.

إن من الأمور المهمة معالجتها في صياغة النصوص: مدى الربط الإضافي بين النصوص؛ لأن الجملة في النص ذات دلالة جزئية، ولا يمكن أن تحدد بدقة الدلالة الحقيقية لكل جملة داخل ما يسمى بكلية النص إلا بمراعاة الدلالات السابقة واللاحقة في ذلك التسلسل، أو التتابع الجملي له؛ لأن الوظيفة الأساسية للجملة في النص القانوني هي أن توضح من يفعل؟ وماذا يفعل؟

فكل جملة قانونية تحمل في طيها حكما، أي: فعلا قانونيا، وفاعلا قانونيا مخاطبا بهذا الحكم، وآلية الوصول للفعل. ولما كان النص عبارة عن مجموعة من الجمل المتتابعة أفقيا، وجب أن تكون هذه الجمل مترابطة فيما بينها حتى تكون نصا متماسكا. فالربط قرينة لفظية على اتصال أحد المترابطين بالآخر، وهو من وسائل امتداد معنى الجملة واتساعها، فعندما ترتبط الجملة القانونية بالجملة القانونية، فإنها تكون سلسلة من الجمل، تتولد عنها الجمل المركبة والتركيبية، وبالتالي الاستقرار العام للمعنى القانوني، ويأتي المعنى الشمولي للقانون ومعرفة فلسفته وغاياته.

ويؤدي الربط بين الجمل في النص القانوني إلى اتصاف هذا النص بصفة الانتظام في فقه لغة النص، ذلك أن انتظام الجمل في النص دليل على انتظام العناصر المكونة لعالم هذا النص.. فالمسند يقتضي المسند إليه، وهذا الأخير يقتضي الأول، وهما معا يقتضيان متممات، فهذه حلقة أولى تنتهي دون أن تنغلق على نفسها، فهي وإن كانت مستقلة من حيث التركيب، لكنها منطلقة في كل شيء، لما يأتي بعدها من حلقات هي جمل أخرى، وبين هذه المعاني ترابط، فالمعنى المستقل لكل جملة مترابط مع المعنى الشمولي للجمل، وهكذا تتناسق المعاني بحيث يستطيع كل مهتم بفلسفة القانون استخراج المقاصد المنبثقة من القانون، وينزل عليها أو يقيس فيما يسمح به القياس.

وللربط أهمية كبرى في بناء القواعد القانونية، إذ يلجأ إليه المشرع لاستيفاء جوانب المعنى القانوني، واستقصاء الفروض والأحكام التي تتضمنها النصوص القانونية بجوانبها المختلفة، وإضافة فرض إلى فرض أو حكم إلى حكم. هذا ويؤكد الإمام القرافي مسألة مهمة في دلالة التركيب في النص القانوني وغيره، حيث يقول: “كل لفظ لا يستقل بنفسه إذا لحق لفظا مستقلا بنفسه صار المستقل بنفسه غير مستقل بنفسه”.

ونضرب مثالا لهذا الكلام حتى يستوعب القارئ معنى ذلك بوضوح، فإذا قال قائل: “عندي عشرة إلا اثنين”، فلا يلزمه إلا ثمانية مع أن الإقرار عند القضاة في غاية الضيق، ودائرة معناه محددة، ولا تقبل فيه النيات، فقوله: “عندي عشرة” يعتبر لفظا مستقلا غير أنه لحقه قول “إلا اثنين”، وهو كلام غير مستقل بنفسه، فلو نطق به واحد وحده لم يستقل، وإذا ارتبط باللفظ المستقل بنفسه، أصبح لفظ “عندي عشرة” غير مستقل بنفسه في المعنى عندها تكون دلالة التركيب هو الإقرار بالثمانية فقط، وألغي اعتبار اللفظ الأول على سبيل الاستقلال.

وهذا يشرح معاني نصوص نظامية كثيرة في تحديد مدلول النص، وهل التركيب الدلالي للجملة يحدد المعنى؟ أم يؤخذ باللفظ المستقل على عمومياته؟ بل أحيانا يراعى في تفسير النص الباب الذي ورد فيه، وكلما كانت الصياغة مراعية لما تؤديه الألفاظ من التراكيب المستقلة، كالشرط والغاية والاستثناء والحال والبدل، وغيرها من الأمور التي تضبط المعنى في النص القانوني، كلما كان المعنى أكثر دقة، وأسلم من حيث التكييف والفهم القضائي، وأي نص يحتمل أكثر من معنى، فمعناه أن هناك عيبا في الصياغة؛ لأن غاية النص هو معنى واحد يتجلى في السطح الخارجي للنص، وإذا كان السطح الخارجي غير دقيق، أثر هذا على المعنى، وينسحب هذا على التطبيق، ثم الحكم القضائي، ومقتضيات العدالة.

إن الاهتمام بعلم صياغة النص القانوني لم يعد أمرا شكليا؛ بل بات حاجة ضرورية ينبني عليها الاستقرار الاجتماعي والقضائي والاستثماري، وعلم صياغة النص له مواضيع كثيرة، منها: الاهتمام بالتركيب بين الجمل القانونية والترابط فيما بينها.

وللأسف نشهد اضطرابا في إصدار النصوص القانونية، وغالبا يكون سببها عدم تقدير الارتباط بين المناسبة الحالية التي يراد إصدار قانونها، وبين المعايير النصية، ولذلك تكون التقديرات لهذا الارتباط غير قانونية؛ بل لأهداف أخرى في مجملها تعسفية، ما يجعل النص القانوني غير مترابط مع التركيبية الدلالية له، وهذا ما يجعل القضاء يقف مترددا من الصياغة القانونية، وليس الإشكال في مدى جودة الصياغة القانونية -وإن كانت الصياغة مهمة- فهي الثوب الذي يرتديه التشريع؛ ولأن غاية التشريع تتحقق وتتم عن طريق الشكل المتمثل في الصياغة القانونية، ولكن صياغة التشريعات ليست مجرد إفراغ للنصوص في قوالب شكلية؛ بل هي أولا -وقبل كل شيء- فكر قانوني محايد، يرد النصوص إلى ضوابطها القانونية، ملتزما بالأصول المنطقية، ولذلك لا بد من التثبت عند صياغة النص القانوني من اتفاق نصه مع نصوص الدستور والقوانين السارية، وذلك لتحقيق التجانس بين القوانين المختلفة في الترابط بين النصوص نصا ومعنى، وبإذن الله سنتناول في مقالات قادمة مزيدا من مواضع لغة النص القانوني. والله الموفق.

المصدر : جريدة الإقتصادية - الخميس 1435/11/2هـ. الموافق 28 أغسطس 2014