أ.د.سعد علي الحاج بكري - جريدة الاقتصادية

عدد القراءات: 1421

لا شك أن للمعرفة دورا رئيسا في نشاطات الإنسان، وبناء الحضارات، وتميز عصور التاريخ وتعاقبها. فعندما ملك الإنسان المعرفة الزراعية قبل آلاف السنين، تقدم في تاريخه من عصر الصيد إلى عصر الزراعة. وعندما انطلقت المعرفة الصناعية، جاء عصر الصناعة ليغير أسلوب حياة الإنسان. ثم عندما ظهرت المعرفة في موضوعات الإلكترونيات والاتصالات والحاسوب برز عصر المعلومات الذي نعيش فيه، الذي يتميز معرفيا عن العصور التي سبقته بأمرين رئيسين: أولهما الثروة المعرفية الهائلة وغير المسبوقة، التي تراكمت عبر العصور. وثانيهما تسارع الإبداع المعرفي، وتوليد معرفة جديدة أو متجددة في مختلف المجالات بشكل لم يسبق له مثيل. ويضاف إلى ذلك، التنافس على الابتكار، وتحويل هذه المعرفة إلى منتجات وخدمات تعطي قيمة اقتصادية، وتشغل اليد العاملة، وتبني خبرات للمستقبل. والمعرفة على أساس ما سبق ليست موضوعا ثابتا بالنسبة للإنسان، بل هي أمر متغير. هي ما استطاع أن “يدركه” الإنسان بالاكتشاف والتفكير. فكثير من المعرفة المتاحة في هذا العصر لم تكن كذلك في عصور سابقة؛ لأن الإنسان لم يكن قد أدركها بعد. وفي هذا المجال، لنا عبرة في قول الله تعالى في سورة الإسراء “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. فمهما مر الزمن وتعاقبت العصور، تبقى هناك فسحة كبيرة للمزيد من المعرفة التي لا تنضب. ونحن، على مستوى كل فرد منا، عندما نتلقى أي معلومة من أي مصدر كان لا تصبح هذه المعلومة معرفة لدينا ما لم نفكر فيها، وندرك جوانبها المختلفة. فإذا ما فعلنا، أمكننا تفعيلها في الحياة، بل أمكننا العمل على اكتشاف وتوليد مزيد منها، وكذلك السعي إلى توظيفها واستغلال معطياتها والاستفادة منها. ومن هنا تنطلق فكرة مجتمع المعرفة الذي يحرص على تفعيل المعرفة في المجتمع بكل أفراده ومؤسساته: نشرا وحفظا وإتاحة، وإبداعا وابتكارا، وتوظيفا عمليا في الحياة بما يؤدي إلى الارتقاء بالتنمية، اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، وتعزيز استدامتها. حظيت فكرة التوجه نحو تفعيل المعرفة في المجتمع من أجل التنمية باهتمام عالمي خاص في مطلع القرن الميلادي الحالي، من خلال الأهداف التي طرحها مؤتمر القمة الذي عقدته الأمم المتحدة في نيويورك عام 2000، وعرفت هذه الأهداف “بأهداف قمة الألفية MDG”. فقد اهتمت هذه الأهداف بمسألة العمل على تفعيل استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات والاستفادة منها في التنمية. ومن هذا المنطلق عقد “مؤتمر قمة آخر حول مجتمع المعلومات WSIS”، ليركز على هذه المسألة، ويدعو إلى نشر استخدام تقنيات المعلومات في مختلف مجالات الحياة، والتوعية بذلك على نطاق واسع؛ من أجل تعزيز الفوائد الناتجة عن هذا الاستخدام. وتم عقد هذا المؤتمر على مرحلتين: إحداهما عام 2003 في جنيف، والأخرى عام 2005 في تونس. في عام 2005 استخدمت “منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: “اليونسكو UNESCO” تعبير “مجتمع المعرفة” بدلا عن تعبير “مجتمع المعلومات”. وانطلقت في ذلك من أن استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات في شتى المجالات، يعزز التعامل مع المعلومات في المجتمع، وأن هذا التعامل يقترن بعد ذلك بعقل الإنسان وتفكيره وإدراكه ليفعل النشاطات المعرفية، بما يشمل تفعيل نشر المعرفة، وتحفيز الإبداع والابتكار، والتوجه نحو توظيف شتى أنواع المعرفة والاستفادة منها. وفي خطوة تالية، دعت “اليونسكو” عام 2013 إلى بناء مجتمعات معرفية في مختلف أنحاء العالم، على أساس أن المجتمعات المبنية على المعرفة تكون أكثر قدرة على خدمة نفسها، وعلى التعامل مع المجتمعات الأخرى بتفهم أكبر وموضوعية أفضل، بما يعزز التوافق والسلام بين الأمم. ولم تكن المملكة بمعزل عما سبق، فقد تأسست فيها “لجنة وطنية لمجتمع المعلومات” بناء على توصيات مؤتمر قمة المعلومات، غايتها العمل على تحقيق أهداف القمة على مستوى المملكة. وقد تزايد استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات في المملكة على نطاق واسع خلال السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، كان ترتيب المملكة في التعاملات الإلكترونية الحكومية عام 2003 هو “105” بين دول العالم، ثم وصل نتيجة التقدم المتواصل إلى “36” عام 2014. وقد بدأت المملكة عام 2012 العمل على وضع استراتيجية وطنية للتحول إلى مجتمع المعرفة، معززة ببرامج محددة الزمن لتفعيل المعرفة في المجتمع، وتعزيز العطاء المعرفي بهدف تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتبة الملك عبدالعزيز العامة أصدرت كتابا حول “التحول إلى مجتمع المعرفة” عام 2005. كما أن برنامج مجتمع المعرفة في جامعة الملك سعود أصدر كتابا آخر حول “منظومة مجتمع المعرفة” عام 2009. وهذا الكتاب، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على نشره، متوافر للجميع مجانا على موقعي ضمن موقع جامعة الملك سعود على الإنترنت (faculty.ksu.edu.sa/shb). هدف مجتمع المعرفة هو التنمية من أجل الإنسان، ووسيلته إلى ذلك هي المعرفة التي يحملها الإنسان أيضا. فإن لم تكن المعرفة لدى الإنسان واعدة بالتنمية وبالارتقاء بحياته اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، فلا ضرورة موضوعية لها. وعلى هذا الأساس، فإن على مجتمع المعرفة أن يركز على المعرفة الواعدة، ولا يهتم بالمعرفة غير الواعدة، بل يبتعد عن المعرفة الضارة. وإذا كان من مثال حول هذا الموضوع، فهو مثال تحديد الموضوعات المعرفية الواعدة ذات الأولوية التي ينبغي التركيز عليها، وتفعيل القدرة التنافسية فيها عند التخطيط للمستقبل. وتجدر الإشارة إلى أن الاختيار بين المعرفة الواعدة والمعرفة غير الواعدة، يبرز قضيتي الوعي والتأهيل من ناحية، وروح المسؤولية من ناحية ثانية. ويضاف إلى ما سبق أن المعرفة الواعدة المختارة يجب أن تكون مفيدة فعلا على أرض الواقع، وليس فقط بالتوقعات، بمعنى أن تكون قابلة للتطبيق وتقديم الفوائد المرجوة. والمعرفة التي تكون كذلك هي “معرفة حية”. وقد قال “بيتر دركر” الاقتصادي الشهير الذي عاش في القرن العشرين “المعرفة تعيش في التطبيقات”؛ كما قال “جبران خليل جبران” المفكر العربي الذي عاش في القرن ذاته “معرفة قليلة مستخدمة فعلا خير من معرفة كثيرة غير مستخدمة وعاطلة عن العمل”. وكما هو الحال في المعرفة الواعدة، يحتاج تحديد المعرفة الحية القابلة للتنفيذ إلى الوعي والتأهيل وإلى روح المسؤولية أيضا. في مجتمع المعرفة يفترض في الناس، أو في جلهم، أن يكونوا من أصحاب المعرفة والتأهيل، أي أن يكونوا من “أولي الألباب”. وعلى هؤلاء مسؤولية التقوى والاستقامة، حيث قال تعالى في سورة المائدة “فاتقوا الله يا أولي الألباب”؛ ومسؤولية التفكير حيث قال تعالى في سورة آل عمران “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب”؛ ومسؤولية القدرة على الاختيار، حيث قال تعالى في سورة الزمر “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”؛ ومسؤولية التميز، حيث قال تعالى في سورة الزمر أيضا “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب”؛ ومسؤولية توخي الحكمة، حيث قال تعالى في سورة البقرة “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب”. مجتمع المعرفة الواعد الذي نخطط له ونتطلع إليه هو مجتمع المسؤولية، بل مجتمع كل المسؤوليات سابقة الذكر، وعلينا أن نكون مستعدين. والله ولي التوفيق.

المصدر : جريدة الاقتصادية - 13-1-2015 م